هذا ما جرى وشاهدته…

كان صباح يوم 12 /12/ 2016 هادئاً جداً بعد ليلة تخللها قصف كثيف للطيران الحربي على اغلب قرى ريف حمص وحماة الشرقي وعلى غير العادة لم يكن هناك أي نسمة هواء, كنت اقف امام مكتبي الذي يتوسط قريتي النعيمية والخضيرة عندما سمعت صوت طائرة حربية قطعت هدوء المكان.
بدأت الطائرة القصف على قرية حمادى عمر بصاروخين ثم سوحا القريبة منها كانت أصوات الانفجار خفيفة بالكاد تسمع عادت الطائرة محلقة على ارتفاع منخفض وقصفت قرية النعيمية بصاروخ واحد كان يبعد عني مسافة اقل من 1 كم واستطعت مشاهدة الطائرة وتميز ما ببطنها من صواريخ، وقع الصاروخ الى الشمال من مدرسة القرية في ارض زراعية وبعيدة عن تجمع المنازل , جرى كل ذلك ولم أتوقع او يخطر ببالي ان هذه الصواريخ تحمل غازات سامة.
كنت مرتبكاً قليلاً بعد مشاهدتي الطائرة على علو منخفض وقريبة جداً مني، في هذه الاثناء كانت هناك طائرة ثانية تحلق على مسافة قريبة وببطيء شديد وسمعت صوت أكثر من انفجار باتجاه قرية جروح “ونحن بالعادة نستطيع معرفة مكان قصف الطائرة من أطراف جبل البلعاس وصولاً الى القرى التي يسيطر عليها النظام في الجهة الغربية”
القصف الأخير كان على قرية الصلالية التي تبعد عن مكان تواجدي 2 كيلو متر فقط لكن هذه المرة القت الطائرة أكثر من صاروخين علمت فيما بعد انها أربعة صواريخ.
بعد انتهاء القصف بعشر دقائق سمعت أصوات وضجة كبيرة وبدا لي ان شيء ما حدث، اتجهت مسرعاً بدراجتي الى قرية الخضيرة المتاخمة لقرية الصلالية وعلمت من الناس ان ” النظام ضرب كيماوي”
كل نتوقع كل شيء من النظام فهو ما ترك وسيلة للقتل الا واستخدمها وخاصة بعد سيطرة تنظيم الدولة على المنطقة وغياب التغطية الإعلامية لكن ان يستخدم الكيماوي والغازات السامة في قرى متناثرة وصغيرة وسط بيئة صحراوية شيء لم نكن نتوقعه.
عدت الى مكتبي واتصلت بالمشفى الميداني لطلب الإسعاف لكن من رد على هاتفي كان يتمتم مرتبكاً وقال ما عنا سيارات اسعاف “جيبو المصابين ع المشفى” “كتو عليهم مي” “شلحوهن تيابن” “لبسوا كمامات وكفوف” لا تلمسوا المصابين”
“الغاز بينتقل بالمس”
طبعاً القرية التي يوجد بها المشفى الميداني تعرضت لقصف وأصيب عدد من كادر المشفى بعد اسعاف أكثر من مصاب ولم يعد لديهم أي ادوية للإسعاف مما اضطرنا لإسعاف المصابين لمشفى ميداني آخر يبعد أكثر من 15 كيلو متر, وهذا ما زاد المهمة صعوبة.
عدت مسرعاً الى قرية الخضيرة وكان عدد من شبابها هرع الى قرية الصلالية لإسعاف المصابين حذرت من شاهدتهم بضرورة التعامل مع المصابين بحذر وانطلقت الى المنطقة المقصوفة.
انتابني الخوف بأن أتأثر بالغازات بعد مكالمتي مع المشفى الميداني على الهاتف وايضاً ان تعاود الطائرة القصف فدائماً ما يعاودون القصف بعد تجمع الناس للإسعاف، لكني تابعت لتحذير الناس وعليَ أنقذ أحد،
كان المشهد مروعاً، جثث أطفال ونساء ورجال مسنَين ملقاة بين المنازل فيما صرخات من نجى وبكاء وحالة خوف ورعب سادت من جاء للإسعاف، لم نعد نميز بين من فقد الحياة وبين المغمى عليهم فقمنا بوضع الجميع في السيارات وارسالهم للمشفى.
كان هناك كثير من القتلى والمصابين في الملاجئ ” وهي عبارة عن مغارة محفورة تحت المنزل او بجانبه” واعتاد أهالي المنطقة عند سماع صوت الطائرة بالنزول لتلك الملاجئ لتقييهم الصواريخ او الشظايا لكن هذه المرة تحولت تلك الملاجئ لقبور لم ينجوا أي شخص دخلها لان الغاز يتبع المناطق المنخفضة.
وحتى اننا لم نستطع النزول لتلك الملاجئ الا بعد ساعات من الحادثة لانه سقط عدد من المسعفين المتطوعين اثناء محاولتهم انقاذ من بداخلها.
بعد ان نزلنا لبعض الملاجئ شاهدت عائلة كاملة الاب والام وخمسة أطفال تتراوح أعمارهم بين الثامنة والسنة والنصف وجوههم مزرقة والزبد يخرج من افواههم ويبدو انهم لم يتحركوا من مكانهم ابداً.
من الاعراض التي شاهدتها اثناء اسعافي للمصابين ضيق في التنفس اقياء دوران وزبد يخرج من الفم وتبدأ الحالة بتضيق في حدقة العين والعجز عن الرؤية ثم اختناق واختلاج.
لم تكن قرية الصلالية وحدها فالمشهد كان يتكرر في قرى جروح وحمادى عمر وسوحا والقسطل وبسبب قلة الخبرة لدى الأهالي في التعامل مع الغازات واسعاف المصابين وغياب للكادر الطبي والاسعافي كان عدد الضحايا كبير.
بعد صلاة العصر حظرت عملية دفن جماعية لشهداء قرية الصلالية كانوا 70 بينهم عائلات بأكملها لم يبقى منهم أحد وهناك عائلة بقي منها طفل رضيع وعائلة بقي الأب فقط لانه كان غائب عن البيت لقد كانت مأساة حقيقية، بكى كل من حظرها.
عدد الضحايا الذين تم توثيقهم كان 110 اشخاص اغلبهم من النساء والأطفال (80) وهناك احصائيات تقول انهم تجاوزوا 130 شخص .
بعد العودة من دفن الشهداء بدأت الأعراض بالظهور عليَ ضيق تنفس وغباشة في الرؤية فاضطررت لأخذ حقنة (اتروبين) وقمت بالتواصل مع عدد من المنظمات والوكالات الإعلامية لتغطية الجريمة لكن دون صور او فيديوهات, فنحن ممنوعين من التصوير وحتى ما حصلنا عليه من التنظيم كان عبارة عن فيديو صغير لا يوثق او يرقى للكارثة التي حصلت.
في الثلاثة أيام التالية للجريمة أغلقت جميع المحلات التجارية والأسواق ونزح أكثر من نصف سكان المنطقة عنها خشية ان يعود النظام للقصف وهو ما حصل في بلدة عقيربات وقرية سوحا وقرية القسطل يوم 16/12/2016 الساعة الثامنة مساء أدت لمقتل رجل واصابت أكثر من عشرة آخرين.
في الذكرى الأولى للمجزرة مازال المجرم طليقاً ومازالت صور الأطفال لا تفارق خاطري لكن ابداً لن ننسى وسنبقى نطالب بمحاسبة المجرمين مهما تعاقبت السنين.

 

 

 

زمان مصدر