من يقرأ شعر محمد رباح يجد الكلمة العذبة، والصورة البديعة، والعاطفة الصادقة النبيلة، ببنية شعرية موسيقية أصيلة، بعيدة عن التكلّف، تتنقل بين رقة وعذوبة حين الحديث عن الحنين والشوق والذكريات، وقوة وشدّة حين الحديث عن الآلام والمصائب التي حلّت بسوريّة بعد ثورتها على الطغيان، ولقد كان ابن غزّة العزّة، ابن غزّة الصمود والبطولة، درسَ في مدينة حمص الطيّبة فطاب له المقام بين أهلها، وأحبّهم وأحبّوه، وما شعروا يوماً من الأيام إلا أنّه واحد منهم قريباً كان أم بعيداً، حاضراً كان أم غائباً.

عاش الشاعر بدايات الثورة السورية ساعة بساعة قبل مغادرته حمص مكرهاً، ورأى بعينه مدى الإجرام والوحشية التي وصل إليها طغيان نظام الأسد وجبروته، فغلب الشاعرُ الإنسانُ الرقيقُ المهندسَ البترولي والكيمائي، ممّا جعل كلماته تخترق حواجز المصيبة والمأساة التي عاشتها حمص خاصّة وسوريّة عامّة، لتصل إلى شغاف القلوب، لقد فاضت هذه الكلمات بمعاني الصدق والإخلاص والوفاء لكلّ جميل، وإننّي إذ أنقل بعض ما أبدعته موهبة محمد رباح الشعرية فإنني كمن يدخل بستاناً تتزاحم فيه الأزهار والورود بألوانها وأشكالها وعبيرها، فيحتار ما يختار، فكلما وقع اختياره على زهرة، أطلّت أختها بجمالها وسحرها فيميل إليها وهكذا، ولأنه لا يستطيع جمعها كلّها في طاقة واحدة، فإنّه يضطر آخر الأمر إلى الاجتهاد في اختيار بعضها فربما اختار واحدة وغيرها أجمل منها:

عاشق حمص والشام: لا يجد من عرف الشاعر أو قرأ له كثيرَ عناء في معرفة مدى تعلّقه بالشام التي عاش فيها ردحاً من عمره، وأحبّها حبّاً شديداً، وقد كتب يصف حبّه لها فقال:

يا شام إنّ حروف الشوق تنحت في               وجهي ما من عمرنـا احترقـا

قد قلت فيك مقالة عاشق ضاعت          منه الحبيبة بعد العشق وافترقا

قلبي بحبك مَـأْسُــورٌ بِـغرْبَـتِـه                  قَلبي لِغَيرِكِ لا واللهِ مَا خَـفقَـا

ولأن حمص لها مكانة خاصة في قلب شاعرنا، وهي عشقه الذي ليس له حدود، ومكانة حمص لا تدانيها في قلبه مكانة لبلدة أخرى، يقول في قصيدة عنون لها: (في حمص عنوان القصيدة) كتبها بعد مرور عام على مغادرتها، عام بطعم الشوق الى حمص، عام بالتمام مرّ كألف عام، ولأن حمص تعني له الروح، قال:

فيْ حِــمْـــصَ عِــنْـــوَانُ الـقَصـيْدَةِ فارتَـقبْ                 دَقَّــــاْتِ قَــلْــبٍ عَـــاْشِــقٍ وَلْــــهَــــاْنِ

في حِـمــصَ كــلُّ الــنَّــاسِ أَهـلُكَ حَــيْــثُـمَا               تَــــمـــشِــي تَـــرَى جَـــمــعَـــاً مِـنَ الإخــوانِ

في حــمــصَ تَــــنـسَـــابُ الــبَــراءَةُ عَــذبَـــةً             مِــــنْ طِـفْــلَــةٍ كـــشَــقَــائِــقِ الــنّـعـْماْنِ

حتى يقول في آخرها طالباً من أهله إيصال سلامه لحمص وأن يدفنوه إذا ما مات فيها:

باللهِ يَــاْ أَهْـلِــي إِذَا حَـــاْن الـــرَّدَىْ        ودَنـَــا الْــــودَاْعُ وكُــلّ عَــبْــدٍ فَـــاْنِ

فَــلْــتُـبْـلِـغُـوا حِـمـصَ الـسَّــلامَ تَـحِيةً       ولْــتَـحْـمِـلُــوا لِـتُــرَابِــهَــا جُـــثْــمَانِي

رأى الشاعر الشاب محمد رباح في حمص ما لم تره عين الإنسان العادي فهي عروس حاكت ثوبها من خيوط النور:

إِنِّي أَرَى حِمصَ العَديَّةَ إِنْ غَفَتْ عَينِي تَـلُــوحُ بِحـسْـنِـهَــا الفَــتـَّــانِ

كَعَرُوسَــةٍ بِالــنُّــورِ حَـاكَتْ ثَوْبَها فَــغَــدا فُــــؤَادِي دَائـِمَ الخَـفَـقَـانِ

وهي في نظره أنشودة الحٌسن التي أبدعتها قدرة الرحمن:

أزهار حمص على الفؤاد تفتحت         فإذا الفؤاد بشوقه أبكاني

يا حمص يا أنشودة الحُسن التي        فيها تجلّت قدرة الرحمن

وهي في نظره أيضاً عطر السماء وروحها: 

يا حمص يا عِطْـر السّـماءِ ورُوحـهَا       يا حســرةً في القلب دومـاً حاضـرة

من حُسن عَينيكِ استَقيتُ مَشاعِري       والشّعر يـَغـرقُ في العُـيـونِ الهَادرة

وكل شيء في حمص له طعم خاص في نفس الشاعر:

فشتاء حمص ينشد القوافي وتترنم أوتاره بأعذب الألحان: 

ورأيت أوتار الشتاء ترنّمت        في حمص شعراً بالجمال يجود

ترنو إلى قلبي الجريح تذوب في          صمت وتسألني متى ستعود

وكذا الثلوج فهي تجعل حمص كالعروس التي تتمايل في ثوبها الأبيض الفتّان:

في حِــمْــصَ ثَـــوْبُ الــثَّــلْجِ يَكْــسُــوْهَــا كَماْ    تُــكْــسَـى الـــعَـــروْسُ بـِــثَــوْبِــهَــاْ الْـــفَــتَّــانِ

ويحنّ الشاعر إلى كليته التي درس فيها في حمص (كلية البتروكيميا) وأيامها الجميلة وصحبة الرفاق والخلان، فيخاطبها:

كليتي قد طال بعدي فاحفظي       عهدي فإنّ لقاءنا لقريب

لازلت منذ فراقنا أشكو الأسى        والدمع من يوم الوداع صبيب

ثمّ يرثي حالها وما وصلت إليها بعد أن حولتها عصابات الأسد إلى معتقل كبير تمارس فيه كلّ أنواع الوحشيّة والساديّة، فيقول في قصيدته (إلى كلية الأحرار: كلية البتروكيميا):

يا ساحةً بِالعِشقِ يَنبضُ زَهرُهَا       أزهارها رَغمِ الجِراحِ تفـوحُ

تَبكينَ إنْ جَاءَ المَـساءُ لِفقدِنَا        وتَدبُّ فِيكِ مَع الصَّباحِ الرُّوحُ

والدَّمعُ مِن بَعدِ ابتسَامَتِنا هُنا        يَجــرِي ويَبكي قَلبُنا المَذبُوحُ

اليَومَ يَصرُخُ فِي فَضاءِك طَالبٌ      فوق ا لجِـدَارِ مُقَـيَّـدٌ مَشبُوحُ

لقد كانت حمص في قلب الشاعر العشق الممتد بين خلايا الفؤاد، نهاية الموت وبداية الميلاد:

يَا حِمصُ يَا أَوتَارَ قَلبِي إنَّ فِي      عِشْقِي لأَرضِكِ عِلَّتِي ودَوائِي

يا مُهجَتي يَا حَسرَتي يَا لَوعَتِي          يَا دَمعَتِي فَي اللَيلةِ الظّلماءِ

وهو منذ غادرها ترك قلبه مرميّاً على أرصفة شوارعها يتنقّل بجسده بين المدن والبلدات تاركاً روحه تجول في حاراتها وأزقتها تكابد ألم البعد والفراق: 

أنا والله مذ ودّعت حمصاً       تركت على شوارعها فؤادي

أسير على الدموع وإنّ روحي      على روحي بحمص غدت تنادي

ولا يجد الشاعر غير الدموع التي تجري من المآقي طوفاناً مواسياً له في غربته وبعده عنها وشوقه إليها، فيقول:

شوقي لحمص أفاض الدمع من عيني     والقلب منــذ فـــراق الأهــل يحـتـرق

تمضي السنين ولم نكتب بقصـتنـا    يا حمص يوماً أنــّا ســوف نفترق

ويقول أيضاً في قصيدة أخرى وقد رأى الخراب والدمّار الذي خلّفته عصابات نظام بشار الأسد فيها:

تلك الديار وإن طال الغياب ففي   يوم سنرجع رغم الموت نبنيها

إن قلت حمصاً رأيت الدمع يسبقني   كأنّ عيني سحاب في روابيها

– وهو يحنّ إلى أحيائها وأيامه الطيبة ويتألم لما حلّ فيها من مآسي ومصائب وأحزان فيقول: 

 باب السباع وقد أتيتك حاملاً    قلبي وأشلائي لأجلك تحمل

والخالدية موطني إن تستقي        أروي ثراها بالدماء واجبل

والمجد يركع للرجال وصبرهم       في بابا عمرو والقذائف تهطل

وعندما يرى حمصيّاً في مصر يعانقه ويضمه إليه وكيف لا وهو من رائحة معشوقته حمص، ويقول في قصيدة طويلة أولها:

عَـانـَقـتَـه لمَـَّـا عَـلــمـتُ بـِأَنـَّه           مِنْ أَرضِ حِمصَ وتُهتُ في أَحزَانِي

وَضَمَـمْـتُه وأَنــــــا أُرَدِّدُ بَـاكيـاً          يا صَاحِبي شَوقِي لَها أَردَانِي

ثمّ يقول مزيلاً كلّ ما يمكن أن يظهر على وجه الحمصي من العجب والاستغراب:

إنِّي وإِنْ كُنتُ ابنَ غَــزّة يَا أَخِي   فتراب حمص يذوب في وجداني

ثمّ يختم القصيدة فيبين أنّ عدم فعله هذا هو مدعاة العجب والاستغراب:

قُـــلْ لي بِربِّكَ بَعدَ هَذا يَا أَخِي       مَـنْ للـغَـريــبِ الــعَــاشِــقِ الوَلهَانِ

قُلْ لي بِحقِّ اللهِ هَلْ هَذَا دَمِي         أَمْ عِشْقُ حِمصَ يَسيرُ فِي شِرْيَانِي