أذكر حين كنت في الصف الرابع، في مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي، كيف وقفنا نحن التلاميذ الصغار رتلاً طويلاً، في باحة المدرسة، يقضم البرد أصابعنا الطرية، ويحرق أنوفنا الحلوة الصغيرة. مع ذلك كنا فرحين جداً وظننّا أن المعلمة نادية هي من سوف يأخذ معوناتنا البسيطة من أقلام ودفاتر وقطع نقدية معدنية، إلى صغار الفلسطينيين، حتى أنني قلت لها يومها: “لو سمحتِ آنسة، سلّمي لي على أي ولد فلسطيني بتشوفيه، وخبّريه إنه نحنا منحبن كتير”. في زحمة الباحة وضجتها، لم تتبين المعلمة كلماتي تماماً. لكنها ابتسمت بلطف شديد. أذكر أن معظمنا لم يكن يملك ثمن قلم جديد، وعلى الرغم من ذلك قدّمنا أقلامنا التي نكتب بها.

لا تهمني هنا ألاعيب الأنظمة الديكتاتورية المتاجرة بالقضية الفلسطينية. ما يهمني هو أن أقول كيف دخلت فلسطين إلى أرواحنا. السوري لا يعرف فلسطين. هو بطبيعة الحال، ومنذ أن فتح عينيه، لا بد أن يرى فلسطين بألف شكلٍ وشكل، ويسمع صوتها من بين مقتنيات أي بيت كان هناك؛ كوفية فلسطينية معلّقة على الجدار، أو حول عنق الأخ الأكبر. وربما هناك لوحة لقبّة الصخرة والقدس على الجدران، أو على الكؤوس، أو على فناجين القهوة. أو هناك صورة لطفل العاشرة حنظلة، أو لناجي العلي، وربما كانت هناك على جدران معظم البيوت والمحلات التجارية، الصورة الشهيرة لرجل طاعن في السن يحمل على ظهره القدس بأكملها مربوطة بحبل يمثّل الشقاء والتعب. يحملها على ظهره المحني كأنه ينقذها من طوفان ما، أو من دمار وشيك. لاحقاً عرفنا أن اسم اللوحة “جمل المحامل”، أو “العتّال الفلسطيني” للفنان الفلسطيني سليمان منصور (أنا كنت أسمّيها نوح الفلسطيني)، وغيرها الكثير من الصور التي لا تخص السياسة وألاعيبها وتحالفاتها ومستنقعاتها.

في الكتب المدرسية لا بد من خريطة لفلسطين التي لا تغيب عن المناهج ودروس الجغرافية. هناك في منهج التاريخ عشرات الدروس التي تروي ما حدث منذ النكبة، وحتى ثورة الحجارة، وما بعدها من تفاصيل. تلميذ الصف الأول يغادر المدرسة إلى العطلة الصيفية، وفي رأسه أغانٍ عدة لا ينساها، أوّلها “ماما ماما يا أنغاما”، و”فلسطين داري”. كان هذا هو النشيد الثاني الذي يتعلمه التلميذ السوري في أولى مراحله التعليمية. ليس غريباً، فمن الطبيعي أن تكون الأم في المنزلة الأولى. لكن لاحظ من في المنزلة الثانية. لن ألحَّ على ذاكرتي، أو أبحث كأنني أكتب مقالاً عن دخول فلسطين إلى كريات دمنا، نحن السوريين. سأكتفي فقط بما تأتي به الذاكرة سريعاً، ويعبّر بشكل واضح عن الأمر. عادةً، يكتب المراهقون قصيدتهم الأولى عن العشق وعيون المحبوبة. أما قصيدتي الأولى، فكانت أبياتاً عدة عن أطفال ثورة الحجارة، لا زلت أحتفظ بها حتى الآن.

كانت فلسطين حاضرة في أغاني فيروز التي حفظناها أكثر من الواجبات المدرسية، حين تقول “عيوننا إليك ترحل كل يوم/ كل يوم”، أو تأخذنا معها في أغنية “القدس العتيقة”، كما لو أننا نلمس جدران المدينة: “مريت بالشوارع/ شوارع القدس العتيقة/ قدّام الدكاكين… لبقيت من فلسطين/ حكينا سوى الخبرية… وعطيوني مزهريّة/ قالولي هيدي هدية/ من الناس الناطرين”. وكنا جميعنا نعشق ريتا ونظنّها حبيبتنا، وكنا نهمس لحبيباتنا بكلمات الأغاني: “في البال أغنية”، و”جواز السفر”. وكنا نعرف “أحمد العربي”، كأنه ابن الجيران. وعلى الرغم من أن لكل مقام مقالاً، إلا أننا كنا نردد أغنية “منتصب القامة” في مقامات لا تخص الحدث السياسي أو الثوري. في طيّات فراشنا، وخلف الكتب في مكتباتنا، كنا نخفي أشرطة الكاسيت المحرّمة: الأول لسميح شقير، والثاني لفرقة العاشقين الفلسطينية، أما الثالث وهو جوهرة الكنز حينها، فلأمسية مظفّر النواب الشهيرة. سميح يقول بصوت دافئ وحزين “رجع الخي…”. فرقة العاشقين تخبرنا عن تاريخ الظلم والقهر الفلسطيني: “من سجن عكا طلعت جنازة… محمد جمجوم وفؤاد حجازي”. وأما مظفّر فقد كان يقول كلماته بمزيج من حرقةٍ وتحدٍّ وكشفٍ لمستور الأنظمة العربية. كنا نشعر بنشوة النصر على حكامنا إن جاء الطفل، وقال بكل عفوية: “الملك عارٍ”. كان من النادر أن تسمع في الشعر “القدس عروس عروبتكم/ فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها… أولاد القحبة ما أشرفكم”. كنا نطير فرحاً حين يردد: “لا أستثني منكم أحداً”.

“حنظلة” العظيم كان مرسوماً على الصفحات الأولى من دفاتر وكتب طلاب الجامعة، وعلى شالاتهم، وموشوماً على زنود البعض. خرجنا جميعنا بدموع تكرج على الخدود من صالة السينما، بعد عرض فيلم “ناجي العلي”. وأجزم أن رصاص المسدس الذي اغتال ناجي أصاب حناجر الجميع.

في المكتبة المنزلية كان ديوان توفيق زياد ذو الغلاف الأحمر الصادر عن دار العودة، يتصدر الواجهة. عموماً، كنا نظن أن محمود درويش وتوفيق زياد وغسان كنفاني ويوسف الخطيب وسميح القاسم وفدوى طوقان، قد يمرّون في أية لحظة من حيّنا، أو يزورون مدرستنا. كان غسان كنفاني يرافقنا على مدى أشهر في الصف السابع. وكنت دائماً أدمع حين أرى اللوحة المرسومة قرب كلمات القصة المقررة لنا. في اللوحة أم حزينة تمسك يد صغيرها، ويمشيان في الضباب والقفر، وتبدو الريح وقد شدّت فستانها وشعرها، بينما ينظر الطفل إلى الخلف كأنه نسي لعبته في مكان ما، لكن لا وقت للعودة الآن.

كنا نعرف نزار قباني في “كل ليمونة ستنجب طفلاً/ ومحال أن ينتهي الليمون”. كرهنا وتجاهلنا كلامه حين رد على أجراس فيروز: “عفواً فيروز ومعذرة/ أجراس العودة لن تقرع/ عفواً فيروز أقاطعك/ أجراس العودة لن تقرع/ خازوق دُقّ بأسفلنا/ من شرم الشيخ إلى سعسع”. ليس تماماً، ليس تماماً يا نزار حين يكون الكلام عن الشعوب الجميلة.