التبس على بعض مشاهدي شريط “حكاية حسن” الذي بثته قناة “العربية” الغرض من إعداده، وظنوا فيه تمجيداً أو مسايرة، في حين أنه حفلة سخرية مريرة، سخرية سوداء، ترسم بورتريهاً لجسم الكراهية والإرهاب وصوت القتل وطلب الدم والثأر والضغينة.

فمثلاً، ليست حكاية ما أبصره والد نصرالله في منامه قبيل ولادة ابنه حسن، من قبيل إضفاء “القداسة” التي ابتغاها الأب عبر سردها، فهي هنا مثبتة في الشريط على نحو يضيء الجانب الهذياني والعصابي والخرافي، المصاحب للسيرة. وهذه الإضاءة تفترض ثقافة عقلانية يفتقدها بعض المشاهدين العرب، الذين ربما يؤمنون بتهويمات المنامات والأحلام، ويظنونها إيحاءات إلهية.

البراعة هنا أن شريط “حكاية حسن” لم يأت من جمع آراء خصوم حسن نصرالله، ولا من استنطاق أعدائه، بل هو اكتفى بما يقدمه هذا الشخص تحديداً وبعض محبيه وأنصاره، من “حال” ولغة وحوادث، يفقه اللبنانيون خصوصاً قوتها التعبيرية، التي تفضح وتسخر وتكشف مشروع “حزب الله” وقادته، في خطف الجمهورية اللبنانية، والهيمنة على قرار الدولة، حرباً وسلماً، وتكريس دويلته بوصفها معسكراً يستنفر طائفة كاملة ويصادرها ويتلاعب بمصيرها، وفق إرادة الولي الفقيه الإيراني.

قد يساء فهم الشريط هذا، لأنه ينطلق من موقف نقدي ضد فكرة “المقاومة” أصلاً، ضد ظاهرة الميليشيات، التي تتغذى وتستمد ديمومتها من استمرارية حال الحرب ومن العمل على إطالة أحوالها وظروفها وتوفير أسبابها. أي أن الشريط يُظهر فكرة مركزية، فحواها أن حسن نصرالله كوّن وعيه وموقفه من العالم، وفق منطق الحرب الأهلية الأبدية، فهو إذ ينتهي من “عدو” يجد عدواً جديداً، ويتناسل الأعداء إلى الأبد، وبالتالي تكون الدنيا وحتى قيام الساعة حرباً لانهائية. فيجوز له أن يظل هكذا ممتشق السلاح، في لعبة الدم، إما قاتلاً أو مقتولاً. بل هو يستأنف حرباً أسطورية (مذهبية المصدر) ضد التاريخ وثأراً منه.

اللبنانيون أكثر من غيرهم، فهموا “سوسيولوجيا” هذا الفيلم. فمنشأ حسن نصرالله هو أرض الرثاثة، في قاع ما كان يسمى ضواحي الصفيح، التي كانت تجمع قبل العام 1975، مهاجري الأرياف إلى تخوم العاصمة. وفي تلك الضواحي كانت البيئة الحاضنة للنقمة والاحتجاج على تعثر الدولة اللبنانية في توفير الفرص العادلة للتنعم بزمن الازدهار، فتلقفت الأحزاب اليسارية والقومية هذه النقمة، واستثمرتها بمدد من أسلحة منظمة التحرير الفلسطينية، تمهيداً لخروج الأهل على الدولة واشتعال الحروب الملبننة طوال أكثر من عقدين.

لا يفعل الشريط، لـ”إدانة” حسن نصرالله وحزبه أكثر من سرد سيرتهما، وهذا أكثر من كاف، بل يفيض لتقشير غلالة “القداسة” التي تغلّف السلاح وحزبه وقائده. فنحن نعاين تلك الولادة من رحم التلوث الميليشياوي ومن بئر الكراهيات والعنف. نعاين شخصاً يعاني “تروما” وجودية لا يرى في الحياة سوى موت الآخرين وإبادتهم وإفنائهم. فهو ابن بيئة انتقلت باكراً إلى الاعتصاب المذهبي، بعد محنة الشيعة اللبنانيين ليس فقط من الحروب الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، بل من نتائج تفلت السلاح الفلسطيني واليساري و”القومي” الذي تناسل عصابات وشللاً وحروب زعران ولصوصا ومجرمين محترفين ودكاكين مسلحة. وضاعف من مأسوية عيش تلك الجماعة استباحة أرضها (جنوب لبنان خصوصاً) للعبة التحارب بين منظمة التحرير الفلسطينية والأحزاب اللبنانية الموالية لها من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية، مع غياب تام لفكرة استعادة الدولة اللبنانية وجيشها السيادة على الأرض والحدود.

هكذا كان حسن نصرالله، أحد شبان “حركة أمل”، التي كانت تسعى لطرد الفلسطينيين واليساريين الشيوعيين وسائر الأحزاب الأخرى من البيئة الشيعية، وستخوض من أجل ذلك معارك دموية طاحنة، ترافقها حملات تصفية للشيوعيين والبعثيين والقوميين والناصريين بمختلف أحزابهم. لكن راديكالية نصرالله ستجد ملاذها في “الثورة الإيرانية” وخلاياها الأولى في لبنان. ففي النهاية، كانت حركة “أمل” تعتبر نفسها التعبير الشعبي الطائفي الذي يريد أن يحسن مكانة الطائفة الشيعية في التركيبة اللبنانية لا الانقلاب عليها، وهي لا تحمل أيديولوجيا أصولية تتماهى مع الأيديولوجيا الخمينية.

انتقل نصرالله وانتمى إلى تلك النواة الصغيرة، التي بدأ يرعاها “الحرس الثوري” الإيراني، وهو “الحرس” الذي تمركز بداية في معسكرات بالبقاع الشمالي، تحت حماية ورضى الجيش السوري ومخابراته، بذريعة المشاركة في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.

منذ ذاك الزمن، بدأ التحالف الأسدي – الخميني، لرعاية وتنمية “حزب الله”، الذي سرعان ما سينقض بعد العام 1984، على “المقاومة الوطنية” التي شرعت بالعمليات العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويعمد إلى تصفية قادتها وطرد مقاتليها من القرى والبلدات وملاحقتهم أو إخضاعهم، ثم سيخوض “حرب الأخوة” مع “حركة أمل” بالذات، ويقوض كيانها العسكري بالكامل، ويسيطر على البيئة الشيعية برمتها، بقسوة وعنف بالغين.

ولا يوقف أصلاً مشاركته في الحروب العديدة والمتوالية منذ مطلع العام 1983، ضد القوات المتعددة الجنسيات، وضد الدولة اللبنانية وجيشها، وضد “الأحزاب الحليفة” بين حين وآخر.. بل وسيعمد إلى شن حرب أخلاقية واجتماعية وأيديولوجية، تفرض على مناطق سيطرته ونفوذه منع الحفلات والموسيقى والترويج لسلوكيات متزمتة وكئيبة، في آداب المعشر والتحدث واللباس، وفي تأليف الطقوس العامة والمهرجانات الدينية والمناسبات المذهبية، المنسية منها، أو المصطنعة حديثاً مع قيام “الجمهورية الإسلامية” في إيران.

ولا ننسى الأدوار المشبوهة لهذا الحزب في خطف الأجانب واغتيال المثقفين وتفجير السفارات وخطف الطائرات، وسلسلة لا تنتهي من عمليات إرهابية سبقت “القاعدة” بسنوات كثيرة.

“حكاية حسن”، هي حكاية اللغم السوري – الإيراني، الذي تم زرعه في قلب “اتفاق الطائف” الذي أنهى الحرب اللبنانية، ونص على حل الميليشيات، لكن باستثناء واحد ومميت: إبقاء سلاح “حزب الله”، بذريعة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. هذا الاستثناء، كان يعني ليس فقط أن طرفاً لبنانياً سيكون وحده القادر على امتلاك السلاح خارج الدولة، ومستقوياً على الجماعات الأخرى، بل هو وحده يملك قرار الحرب والسلم.

وبما أنه جزء من التحالف الأسدي الإيراني، الذي يمنع لبنان من إيجاد سبله المناسبة (حرباً أو تفاوضاً) لتحرير أرضه، والذي يستثمر في استباحة الحدود اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي، فرصاً للابتزاز الإقليمي والدولي، ويجعل لبنان صندوق بريد دمويا (مقابل الهدوء الأسطوري في الجولان)، بين “سوريا الأسد” و”إيران خامنئي” من جهة، وإسرائيل والغرب من جهة ثانية.. كل هذا، كان يعني ديمومة الحروب وإطالة أمد الاحتلال، وتغذية “حزب الله” بمدد الشهداء والسلاح، ليكون حسن نصرالله “سيد المقاومة”، الذي لا يتعب من مقارعة إسرائيل، تحت شعار “زحفاً زحفاً نحو القدس”، الذي يدغدغ مشاعر الملايين ويجعلهم يرون في “المقاومة” شفاء للجرح التاريخي الذي أحدثه نشوء دولة إسرائيل في فلسطين التاريخية.

قليلون من العرب يعرفون أن حملة “تصفية الحساب” الإسرائيلية عام 1993، قامت انتقاماً من إفشال سوريا و”حزب الله” مشروعا فرنسيا ينص على ترتيب تفاهم لبناني إسرائيلي للانسحاب من جنوب لبنان، يومها منع النظام السوري الجيش اللبناني من التوجه إلى جنوب لبنان والانتشار فيه، تمهيداً لانسحاب إسرائيلي محتمل. وظل هذا المنع إلى أن صدر القرار 1701، عام 2006.

قليلون من العرب يعرفون أنه عقب عملية “عناقيد الغضب” الإسرائيلية، والمروعة والتدميرية، عام 1996، انتهت بما سمي “تفاهم نيسان” الذي رعته الأمم المتحدة بمبادرة فرنسية وجهود شخصية بذلها الرئيس رفيق الحريري، وضعت قواعد اشتباك يحيد المدنيين، ما أثار نقمة سوريا و”حزب الله” على فرنسا والحريري، ستترجم لاحقاً بالدم.

قليلون من العرب يعرفون أن “حزب الله” جن جنونه حين أعلنت إسرائيل نيتها الانسحاب من جنوب لبنان ونفذته فجأة في صيف عام 2000، في حين اعتبرت الحكومة السورية حرفياً “هذا الانسحاب من طرف واحد هو مؤامرة”! وأعلن الحزب المذكور أن الانسحاب هو فخ لتصفية المقاومة!!

قليلون من العرب يعرفون أن “حزب الله” وجد نفسه يتيماً بعد الانسحاب العسكري المخابراتي السوري المذل من لبنان، تحت ضغط “انتفاضة الاستقلال” والثورة الشعبية السلمية التي تلت اغتيال رفيق الحريري وسخط المجتمع الدولي من بقاء الهيمنة السورية، فشعر الحزب أن أسباب حروبه شارفت الانتهاء وأن مشاريعه الإقليمية وأدواره السياسية والأمنية باتت مهددة، وأنه مطالب بـ”لبننة” حاله وبرنامجه وسياسته وأنه بات لزاماً عليه إنهاء استثنائه كميليشيا خصوصاً أن لا مبرر لمقاومة منذ التحرير عام 2000، فهرب إلى حرب تموز 2006، متعمداً استفزاز إسرائيل، التي خرجت عن “قواعد الاشتباك” التقليدية، فشنت حرباً شاملة ومدمرة، انتهت بأن أعاد “حزب الله” لبنان بأسره إلى طريق الجلجلة التي يأنس إليها حزب السلاح والحرب. ثم استثمر “بطولاته” انقضاضاً على “انتفاضة الاستقلال”، ليحتل وسط العاصمة ويشله، ويحاصر مقر الحكومة مدة سنتين، ثم يجتاح العاصمة كلها وبعض المناطق الأخرى بقواته العسكرية عام 2008، فارضاً حرباً أهلية لم يجد فيها خصوماً مسلحين. فكانت له حتى اليوم الهيمنة على لبنان كله.

قليلون من العرب، بوسعهم الاستمتاع بشريط “حكاية حسن”، الذي لا يفضح كل تلك الوقائع وحسب، بل يرسم بخطوط رمادية قليلة، كاريكاتوراً هازئاً لهذا البطل التلفزيوني الثرثار والفظ، الذي لم يجد سوى قلب هيفاء وهبي ينبض له، هي ابنة القرية المجاورة لقرية نصرالله، والتي تجسد – صورة وغناء – كل ما يكرهه ويبغضه ويسعى لمحوه عن وجه الأرض. إنه البليغ والمفوه، الذي يقلده طفل لا يجد مشقة في تمثيله وتقمصه.. وربما السير على منواله جيلاً بعد جيل، يولد في تعاسة الحروب ويموت بها ومن أجلها.

“حكاية حسن” هو شريط الضحكة السوداء، هو ثأر فني من أوهامنا أيضاً عن “البطولة” و”الشهادة” و”المقاومة” و”السلاح زينة الرجال” و”الزعيم المخلص”. إنه نقد للهذيان الموغل فينا الذي يمثله حسن نصرالله خير تمثيل.