تواجه حركة التحديث والتطوير والتحرر الاجتماعي التي بدأت تظهر بقوة في العالم العربي في السنوات الماضية، تواجه معارضة من بعض الجهات التي تعتبرها انقلاباً على العقيدة والقيم والمثل الإسلامية، وصدمة للأنظمة الاجتماعية التقليدية القديمة.

هل هي كذلك فعلاً، أم إنها حركة اجتماعية مطلوبة لمواكبة العصر والتطورات الدولية على كل الأصعدة الثقافية والإعلامية والفنية والاقتصادية والاجتماعية؟ لا شك أن البعض قد لا يقبل هذا التوصيف ويعتبر الانفتاح فرماناً سياسياً وليس تحولاً اجتماعياً أو حركة تحرر مجتمعية.

ويرى البعض أن مجتمعاتنا وشعوبنا ليست أكثر من عجينة لينة لم تختر يوماً أسلوب حياتها أو ثقافتها أو حتى نوع عقيدتها، بل هي مجرد مادة يستخدمونها لأغراض سياسية واستراتيجية حسب الحاجة، وبالتالي فهي لا تختار ثقافتها، بل تتلقاها مرغمة، كما حدث من قبل في مرات عديدة. بعبارة أخرى، فإن الشعوب، برأيهم، هي في النهاية نتاج الأنظمة التعليمية والاجتماعية والثقافية والدينية التي تفرضها الدول لأغراض سياسية واستراتيجية، فعندما كانت المنطقة العربية مثلاً بحاجة إلى إسلام جهادي متشدد شجع الغرب هذا النوع من الإسلام ودعمه في العالمين العربي والإسلامي لأنه وجد فيه سلاحاً قوياً لمواجهة الخطر الشيوعي الملحد في الشرق الأوسط، فكان لا بد من ظهور إسلام متعصب منغلق لغايات تخدم القوى الكبرى وحلفاءها داخل البلدان العربية قبل أن تخدم مصالح الشعب والبلد. وهذا لا شك صحيح، ويعترف به البعض.

لكن السؤال هنا: هل الانقلاب الذي يحصل اليوم على المجتمعات المنغلقة وتحريرها اجتماعياً، هل هو قرار سياسي واستراتيجي لخدمة الأنظمة وداعميها في الخارج، ويبقى الشعب بدوره مجرد عجينة كما أسلفنا يصنعون منها الخبز الذي يريدونه في كل مرحلة تاريخية معينة، أم إنها رغبة صادقة في التحرر من الثقافة المجتمعية المنغلقة؟

لا نختلف مطلقاً مع الذين يعتبرون الشعوب بمجملها مجرد قطعان مسلوبة الإرادة يغسلون أدمغتها اليوم لتكون محافظة ومتشددة، وفيما بعد يطلبون منها أن تتحرر من ثقافتها القديمة عندما تصبح تلك الثقافة غير مناسبة أو مفيدة للمخططات الاستراتيجية للقوى الكبرى وأتباعها في العالم العربي أو غيره.

هذا لا يحتاج إلى شرح، فهو ماثل أمامنا بشكل صارخ ولا يمكن أن ينكره أحد. لكن السؤال اليوم على ضوء التحولات المجتمعية التي نراها: أيهما أفضل البقاء تحت نير مجتمع منغلق ومتشدد ثقافياً واجتماعياً، أم التحرر من ذلك النهج الذي هو نفسه لم ينشأ بإرادة ذاتية، بل كان بدوره مجرد أداة أو صنيعة للقوى التي كانت تريد في يوم من الأيام في هذا البلد أو ذاك مجتمعاً منغلقاً يخدم مصالحها الاستراتيجية والسياسية؟

لا ننكر أن المؤسسات المتشددة والمنغلقة التي كانت تحكم هذا المجتمع أو ذاك ليست نتاجاً شعبياً محلياً، بل هي نفسها مفروضة فرضاً لمرحلة معينة، وهي يمكن أن تنسحب من المشهد بسهولة إذا طلبوا منها الانسحاب أو الانزواء جانباً. وهذا يؤكد أن المجتمع والمؤسسات التي تروضه وتفرض عليه ثقافة معينة كليهما مجرد أدوات أو عجينة كما قلنا، لكن مع ذلك، نعود للسؤال المحوري: أليست التحولات الاجتماعية الجديدة في العالم العربي مهما كان الدافع وراءها، أليست أفضل بألف مرة من العيش تحت رحمة مجتمعات متزمتة تعيش خارج العصر والحضارة؟ بالطبع نعم، فأي انفتاح أفضل من الانغلاق وهو بمثابة تحرير مطلوب للشعوب كي تتنفس حرية اجتماعية كي لا نقول سياسية، فكما نرى اليوم، ليس المطلوب التحرر السياسي،بل فقط التحرر الاجتماعي، لكن لا بأس أن ترتخي القبضة الاجتماعية. وكما يقول المثل: الرمد يبقى أفضل من العمى، فعلى الأقل هناك اليوم نهضة ثقافية وفنية وإعلامية وتربوية واقتصادية متصاعدة في بعض الدول العربية، وهي بكل تأكيد أفضل بعشرات المرات من التحجر الاجتماعي الذي خنقها على مدى عقود خدمة لمصالح خارجية لا ناقة لها فيها ولا جمل.

وللأمانة، من الخطأ القول إن بعض التحولات الاجتماعية حدثت بكبسة زر من هذا النظام أو ذاك، فهذا غير صحيح وغير معقول أصلاً، فكما يقول الفيلسوف الفرنسي الشهير غوستاف لوبون في كتابه الشهير «سيكولوجية الجماهير» فإن العادات والعقائد تموت بصعوبة وتحتاج أحياناً إلى أجيال كي تندثر.

وهذا واضح لدينا، فقد تم تدريب بعض المجتمعات على مدى عقود للخروج من شرنقة الانغلاق والظلام والتشدد عبر امبراطوريات إعلامية لعبت دوراً محورياً في عملية التحرر وتحضير الساحة الاجتماعية كي يحصل الانقلاب المجتمعي المطلوب لاحقاً. بعبارة أخرى، فإن أي نظام أياً كان جبروته وقوته لا يستطيع أن يقود الانقلاب الاجتماعي المطلوب إذا لم يكن المجتمع جاهزاً وناضجاً لعملية التحرر والانتقال.

صحيح أن الشعوب وثقافاتها وحتى عقائدها باتت اليوم صنيعة أجهزة الإعلام العملاقة، وهي تنتقل من عصر إلى عصر حسب رغبة المالكين والموجهين والمتحكمين بوسائل الدعاية والتوجيه والتلاعب بالعقول، لكن عندما يكون الخيار بين العيش في عصر الظلمات تحت سطوة المؤسسات الظلامية العفنة وبين الانفتاح على العصر والانخراط فيه ثقافياً وإعلامياً وفنياً واجتماعياً، فإن الكفة سترجح بالتأكيد لصالح التحرر والانفتاح.

؟

؟

؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

؟

؟

؟