نكاد نرى بأم العين كيف يستمر نظام الاسترقاق في بلادنا بهذه الصورة أو تلك: العبودية الصريحة في موريتانيا، الخدم في لبنان، أو سواه، نظام الكفالة في بعض دول الخليج، الإساءة للمهاجرين غير الشرعيين في طريقهم إلى أوروبا في ليبيا، وفي تونس، الإتجار بالبشر…

ومع ذلك سنجد هجوماً لا يكنّ ولا يهدأ على فيلم «حياة الماعز» الذي يعرض على نتفليكس، ويحكي قصة رجل هندي جاء، كالملايين من مواطنيه، إلى المملكة السعودية ليجد نفسه أسير كفيلٍ قاس لا يرحم، يلقي به في قلب الصحراء مع ماشيته، مستعبَداً تماماً، دون أجر، ودون وسيلة أو معين على الهرب، وبلا لغة يمكنه التفاهم عبرها مع أحد.

 

إن كان هناك ما يثير الحنق، بل الرعب، هو أننا في العصور الحديثة هذه ما زلنا نعيش عالم العبودية القاسي، وهذا بالذات ما كان يتوقع أن يشغل الجمهور

 

لن يؤثر في الحكاية أن الكفيل لم يكن هو مقصود نجيب، العامل الهندي، ما دام يعتمد في استعباده على ما تتيحه قوانين هذا النظام. ففي النهاية، وعلى نحو ما، سيجد الرجل الهندي نفسه في قلب سجن رهيب، مع ضرب وقسوة وغياب لأبسط مقومات العيش، المنامة، الأكل والشرب والاستحمام. كان يعيش تماماً حياة الماعز. كانت لقطة بارعة تلك التي تصوره محشوراً مع ماعزه في الكهف يمضغ ويحرك فمه أثناء الأكل على طريقتهم.

الهندي سيحاول الهرب مراراً، وسيعاد بالقوة إلى «الحظيرة» وسيترك الجوع والتعذيب أثرهما على جسده، وبالتالي سيصبح مرور الوقت (وهذا يمرّ بالسنوات) عاملاً محبِطاً في دراما النجاة هذه، فـ «إن لم تستطع النجاة اليوم لن تستطيع أبداً» ستفقد قوتك وشبابك وصحتك، والمثال كان حاضراً على الدوام أمام المشاهد، كما أمام البطل، في شخصية سلفه الهرِم الذي يعمل في الحظيرة بجسد مهدود، سنراه لاحقاً ميتاً تحت لهيب الشمس والرمل تتناهشه الطيور المفترسة. كان هذا الرجل هو مستقبل نجيب، وقد لاحظنا شيئاً فشيئاً كيف آل للمشية نفسها، والقوام، واللباس، واللحية نفسها.. وغداً؟

سيبدو الفيلم مملاً بعض الشيء لنافدي الصبر، فهو بطيء الإيقاع، وقليل العناصر، فقط هنالك ماعز وصحراء ورجل وحيد معذَّب، وإن انتقلت الصورة من عالم الصحراء والرمل والعزلة، فمن أجل العودة إلى عالم الرجل الهندي الأليف حيث الماء والخضرة ووجه زوجته الحسن، انتقالات بصرية ليس فيها احتقار، على ما ذهب البعض، لبيئة المملكة وأرضها، بقدر ما هي شوق الغريب، في المكان الغريب الجاف إلى أمكنته الدافئة، الرطبة، الحنون.

اللقطات المديدة والبطيئة هنا هي محاولة لتعويض غياب حوار البطل وتفكيره وهواجسه، وهذه في الأساس ضريبة نقل عمل أدبي، روائي إلى السينما، خاصة إذا كان نوعاً من السيرة أو المذكرات، إذ كيف ستروى الهواجس الشخصية بغياب الكلام؟ وللحق فقد جاء التصوير بمنتهى البراعة والجمال. وقد يبدو بالفعل أن من السهل الاستغناء عن لقطات هنا أو هناك، خصوصاً في مشاهد الهرب عبر الصحراء، لكن لكل مشهد، كما يحسب المرء، وظيفة وغرضاً.
سيتمكّن الرجل الهندي أخيراً من الهرب، في مسير شاق عبر الصحراء، بعد أن يلتقي بصديقه الهندي حكيم الذي جاء بصحبته، في الطريق ذاته، ويلاقي المصير نفسه لكن في مكان آخر، إلى أن يلتقيا بعد سنوات أثناء الرعي.

 

عندما يصل نجيب إلى نقطة النهاية، في السجن، ليعرض مع آخرين على كفلاء يبحثون عن مكفولين هاربين، سيأتي كفيل نجيب المزعوم، وهنا سنكتشف أن الرجل لم يكن كفيله بالفعل، وإنما استغل تَوَهانه، وخطأ ما، ليستأثر بالهندي نجيب ورفيقه حكيم. لكن من وصل إلى هذا المشهد في الفيلم لا بد أنه أصيب برعب أن يتمكن الكفيل من أخذ نجيب ثانية إلى حظيرته، ولا بد كذلك أن المشاهد وجد نفسه أمام سوق نخاسة مرعب، مستعار من التاريخ، أو مسلسلاته.
إن كان هناك ما يثير الحنق، بل الرعب، هو أننا في العصور الحديثة هذه ما زلنا نعيش عالم العبودية القاسي، وهذا بالذات ما كان يتوقع أن يشغل الجمهور، متلقّي الفيلم، لكن ما أثار الرعب أكثر أن عدداً هائلاً من مشاهدي «حياة الماعز» أو ممن سمعوا عنه فقط، هاجموه على أنه يتقصد استهداف المملكة.

وأياً كانت الذرائع، ضعف المبررات الدرامية لبعض مشاهد في الفيلم، أو مقاطعه المملة، أو بعض العبارات التي اعتبرت عنصرية، أو مشاهد اعتبرت تنال بصرياً من المملكة وتحطّ من قدر بيئتها، لصالح الهند الجميلة، خضارها وأنهارها، ومطرها. فإن كل ذلك لا يجب أن يشغلنا عن النقاش الحقيقي، الموضوع الذي يطرحه الفيلم، وهو نظام الكفالة الظالم، وبالمناسبة، تجري أحداث الفيلم، والرواية الأصلية، قبل الإصلاحات التي طرأت لاحقاً في السنوات الأخيرة، أي أن هناك اعترافاً بالفعل بأن النظام الذي كان سائداً لم يكن منصفاً.

وهنا ستجد أن عدداً غير قليل من التعليقات حول الفيلم انصب على تجارب شخصية لأناس عاشوا هناك ولم يروا إلا كرم الضيافة والترحيب، لكن ذلك لا يلغي أن عدداً كبيراً مقابلاً عاش أحوالاً غير عادلة، وربما تصلح حياة المهاجرين واللاجئين في أوروبا نموذجاً لما يجب أن يكون عليه الحال في بلداننا، فحتى طالب اللجوء أو المهاجر غير الشرعي سيكون له حقوق مساوية تقريباً للمواطنين، لا يحظى بها عادة هنود بلادنا، وربما مواطنو بلادنا.

 

كان عجيباً بالفعل أن تجد من يَسوُق الظلم الاجتماعي في الهند نفسها مثالاً يدحض به حجج الفيلم! لا يمكن أن تكون هذه المناكفة من أغراض صنّاع الفيلم.

هنالك ردود فعل لا تصدَّق في تلقي الفيلم، ولا نتحدث هنا عن مواطني مواقع التواصل الاجتماعي وحسب، فهذا كاتب في صحيفة معروفة يقول: «الفيلم لا يخلو من غمزات مغازلة الصهيونية بشكل ملغز، حين أطلق على العامل الأفريقي الذي يأتي لإنقاذ العاملين الهنديين من جحيم الرعي في الصحاري العربية اسمه «إبراهيم» ليس هذا فقط بل إن العامل الهندي يصف إبراهيم الأفريقي بأنه كالنبي موسى الذي أرسله الله لإنقاذنا».
وإبراهيم في الفيلم أفريقيٌّ تطوّعَ، لوجه الله، للعمل كدليل لإنقاذ الرجلين، وهو مسلم ورع بوضوح، ولطالما غمرت مسيرة الرجال الثلاثة تحت الشمس (نجيب وحكيم وإبراهيم) أناشيد دينية بعبارات إسلامية صريحة، لا يمكن أن تشي بأي ملمح صهيوني، بل بملمح روحي شديد النقاء والجمال.

هذا الافتراء لا يشبهه إلا القول إن «حياة الماعز» فيلم هندي، بالمعنى الذي نعرفه جميعاً عندما يراد الحطّ من قدر حبكة ما، تعتمد على المصادفات المبالغ بها، والميلودراما، والحلول غير المتوقعة، والمتفائلة بشكل مفرط، والنهايات السعيدة. وبالعكس، فإن الفيلم خارجٌ بوضوح عن سرب بوليوود، ويستحق الاهتمام والنقاش بعيداً عن (وبرغم) ذباب السلطات، الإلكتروني وسواه.

 

 

 

* كاتب من أسرة «القدس العربي»