لا تكتفي أغنية الفنان المصري محمد عطية «البطيخ»، الحائزة حوالي مليون ونصف المليون مشاهدة على يوتيوب فقط، بما باتت ترمز إليه هذه الفاكهة الشعبية المبهجة بتطابق ألوانها مع العلم الفلسطيني، فقد أصرّ ولدُ مصر البهية أن يُحضِر حفنة من رموز فلسطين في فيديو كليب واحد.
البطيخة وحدها، بكامل استدارتها وانغلاقها ليست هي المقصد، فحتى تكون فلسطين لا بدّ أن تكون «مذبوحة»، لا سبيل سوى ذلك لتنكشف حمرتُها، وتَدرُّجُ ألوانها.

لكن المغني أراد أن يمزج بين رمزين، البطيخ (ألوان العلم) والمثلث أحمر اللون الذي نعرفه جميعاً عبر فيديوهات المقاومين في غزة عندما يشيرون إلى الهدف الإسرائيلي بمثلث أحمر، والبديع في الأمر أن المثلث لا يأتي جزافاً، أو مقحَماً، بل يأتي وكأنه جزء من أصل الحكاية، فالبطيخ يؤكل هكذا، فلسطينيين كنا أم مصريين، على شكل حزّ مثلث الشكل. وأراد صنّاع الفيديو تأكيد شكل المثلث حتى في الرقصة التي يؤديها الراقصون مع عطية.
تردّد لازمةُ الأغنية:
حَمار وحلاوة
سكّر ونقاوة
عالسكين يابا
غَنِّ ورايا للبطيخ
و«حمار وحلاوة» هذه هي نداء باعة البطيخ في مصر المحروسة. أما «عالسكّين» فهي تعني في الواقع نوعاً من كفالة للمشتري، فالبائع يتعهد بشق البطيخة ليريه احمرارها بأم عينيه (أحياناً عالمَكْسَر، فقد لا تتوفر السكين)، وفي الأغنية لا يخفى التلميح بوعد المقاومين الفلسطينيين لأعدائهم، وفي الأساس، وعلى ما تشير يوميات الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت العام 1987، كان الفلسطينيون يقطعون البطيخة عند مرور دورية إسرائيليين، فكان تلك إيماءة أقسى من مجرد رفع العلم.
وصحيح أن الفاكهة الصيفية الشائعة هي بنت البلد، رائجة ومتوفرة، على ما تشير وثائق منذ حوالى 5000 عام (مصر، المغرب العربي..)، إلا أنها لم تتحوّل إلى رمز فلسطيني إلا في الثلاثين عاماً الأخيرة، وللمفارقة، فقد ولد الرمز على يد ضابط إسرائيلي، عندما استدعى مجموعة من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين متوعداً إياهم بأن رسم ألوان العلم ممنوع، حتى لو على سبيل التلميح، حتى لو مواربة بإهاب بطيخة، والرواية على ذمة فنان فلسطينيّ مخضرم، هو سليمان منصور، صاحب اللوحة الشهيرة «جمل المحامل». (هناك احتمال بأن يكون الضابط قد جابهَ مشهداً للبطيخ على أرض الواقع، ما جعله يُهدِّد تالياً).
بعد أوسلو لم يعد الفلسطينيون بحاجة للاستعاضة عن العلم ببطيخة، فهذا لم يعد ممنوعاً، وباتت الحاجة إلى الرمز موسمية، مع كل معركة أو مجزرة أو حدث كبير يحرك الشارع الأوروبي، هناك حيث يخشى المتضامنون مع القضية تهمة «معاداة السامية»، كما خوارزميات وسائط التواصل الاجتماعي التي سرعان ما أدرجت رموزَ فلسطين والمقاومة في إطار خطاب الكراهية، والعنصرية، وسواها من الأسماء والاختراعات التي تودي إلى المنع، وأحياناً إلى السجن، والمضايقات.
لكن منذ السابع من أكتوبر، وانتفاضة الجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا، استُخدمت صورة البطيخة على نحو واسع، وبأشكال لا حصر لها، ويبدو أن الرمز لم يعد مجرد تحايل على مختلف الرقابات، ففي المظاهرات كان يحضر إلى جانب رموز أخرى صريحة، من خارطة فلسطين بحدودها التاريخية، إلى الشعار الشهير «من النهر إلى البحر»، والعَلَم نفسه، والكوفية بتنويعات وابتكارات شتّى.

اتخذ استخدام صورة البطيخة شكلاً احتفالياً، طقساً مبهجاً؛ أعمالاً تشكيلية، تصاميم ملابس، حقائب، غرافيتي،.. ومع أن الفاكهة العريقة لم تترسخ، خلال عمرها المديد، كرمزٍ موحٍ، رومانسي مثلاً، كما التفاح، والعنب، والكرز، والرمان والتين، والخوخ،.. إلا أنها استطاعت أخيراً أن تتسيّد قافلةَ الفاكهة، ولا ندري ما كان سيفعل محمود درويش لو كان هنا، إن كان سيتمكّن من إدخال البطيخ إلى حديقته الشعرية، هو الذي ترك طريقاً واسعاً حتى للفرفحينة لتشق درباً بين أعشابه، سنرى ما يمكن أن يفعل شاعرٌ باللقاء العسير بين الحروف السميكة للاسم.

البطيخة إذاً رمز بصري، تبهج العين قبل كل شيء، ألوانها، ونسيجها الهش (بحسب وصف فنان تشكيلي مصري)، وامتلاؤها بالماء، إلى جانب ما تمثله من لمّة العائلة، إن لم يكن الجيران برمتهم، ولا بدّ في طقس ضاج وحلو، وكان يمكن للصورة أن تكون وحدها كافية لتعكس التضامن، سوى أن الأغنية تأتي، تحاول على الأقل، لتقول: «ألا فاسْقِني خمراً، وقلْ لي هي الخمر»، أي لتكمل ما فات من المشهد وحواسه: صوت الربت على جسد البطيخة، صوت قضم حزّ البطيخ، مع حضور الماء في مخيلة الفم…
«بطيخة» محمد عطية ليست أغنية على وجه التحديد، ولا هذا هو سبب الاحتفال بها، إنها قلب نقي يتضامن مع فلسطين، تماماً مثل بيّاع البرتقال وهو يهب الشاحنات العابرة إلى غزة برتقالاته، مثل أحمد دومة صارخاً في مظاهرة: «مَعْبَر بينّا وبين أهالينا»، مثل المعتقلين في سجون الطاغية لأنهم فقط تضامنوا مع فلسطين.
هي «مصر البهية، أمُّنا، السباقة دائماً بالنزول إلى الساحة».

؟

؟

؟

* كاتب من أسرة «القدس العربي»

؟

؟