حنين النقري – عنب بلدي

اضطرت مئات الآف من العائلات إلى الخروج من سوريا بحثًا عن الأمان، وفي رحلة بحثهم عنه لم يفارقوا الوطن والأرض والذكريات والجوار فحسب، بل تركوا وراءهم ممتلكات ماديّة وعقارات لم يُتح لهم بيعها، أو رفضوا ذلك أملًا بعودة لا تتأخر، ولسان الحال يقول “كله في حماية الله“، خوفًا من صاروخ أو قذيفة تهدم “تحويشة” عمرهم بلحظة.

لكن من قال إن مخاطر الحرب في أسلحتها فحسب؟ فقد شجّع غياب القانون وسيادة الفوضى في السنوات الأخيرة على خلط الكثير من الأوراق، صار المسموح ممنوعًا، وكل مستحيلٍ في الأمس بات ممكنًا بشكل كبير اليوم، ومن بين ذلك نهب الممتلكات والاستيلاء عليها في ظل غياب مالكها الأصلي.

كان لنا بيت في المهاجرين

بنفس حزن فاروق جويدة في قصيدة “كانت لنا أوطان”، تقول السيدة ثريا، وهي سوريّة مقيمة في تركيا، “كان لنا بيت في المهاجرين”، بلهجة يأس واضحة، وتضيف “اضطررنا للخروج من سوريا بين ليلة وضحاها بسبب مطاردة الأمن لابني، لم أتحمل أن يعتقلوا وحيدي، فخرجنا أنا وهو إلى لبنان ومنها إلى تركيا خلال يوم واحد، كان ذلك منذ ثلاث سنوات”.

تركت ثريا البيت أمانة لدى صديق زوجها، الذي اختار أن يقيم فيه حرصًا عليه، وتوضح “لم أرغب بتأجير المنزل خوفًا من أن يستعصي المستأجرون فيه، فاليوم لا أحد يُحاسب أحد، ومنزلٌ في المهاجرين خالٍ من أهله يعتبر ثروةً لا تضاهى بنظر ضعاف النفوس، ولهذا كان الحل الأنسب أن يُقيم صديق زوجي فيه ليحميه من الاستيلاء والعبث”.

سكّان إيرانيّون

قد تكون إقامة صديق العائلة الوفيّ في المنزل حلًا لإبعاد المستأجرين المستعصين عنه، لكن هل يمكن أن يقف في وجه عناصر الأمن؟ هذا ما وجد نفسه مضطرًا للإجابة عنه عندما طُرق الباب على حين غرّة، تشرح ثريّا “دون مقدّمات طلب منه عناصر الأمن عقد الإيجار أو ملكية المنزل، ولما لم يكن لديه عقد بسبب خروجنا من سوريا بسرعة، وعدم وجود أحد من مُلّاك المنزل يوكّله بشكل قانونيّ، أعطاه العناصر مُهلة عدة أيام لإخلاء المنزل”.

تبيّنَ للعائلة فيما بعد أن أحد الجيران قام بالتبليغ عن شخص غريب يقيم في البناء، ونظرًا لاستحالة عودة ثريّا لدمشق بهدف كتابة عقد إيجار أو توكيل لصديق العائلة، لم يكن أمامه إلا إخلاء المنزل ضمن المدة المحددة له من قبل عناصر الأمن “أخلى صديقنا وعائلته المنزل بالفعل، ولم يكن عناصر الأمن ليفوّتوا هكذا منزل في هكذا حيّ، فوضعوا أيديهم عليه، علمنا فيما بعد أن سكانًا إيرانيين يقطنون فيه”.
تضيف ثريّا أنها حاولت ما استطاعت الحفاظ على إرثها من زوجها بمكان يتّسع لها حين عودتها إلى وطنها وحيّها، لكن ذلك كلّه تبخّر عندما بات غريمها عائلة إيرانية تحتلّ بيتها “هل يمكنني أن أقول بعد اليوم أن لي منزلًا في المهاجرين؟”، تتساءل بحسرة.

وظلم ذوي القربى..

وإن كان السوريّون اعتادوا على ظلم النظام السوريّ وعناصره ويتوقعون منه السوء دومًا، فإن أحدًا لا يتوقّع ظلمًا مشابهًا من صديق أو قريب، وهو ما يجعل الغُصّة أكثر مرارة وأشدّ ألمًا، هذا ما حاول عدنان (45 عامًا)، من سكان الغوطة الشرقية، أن يعبّر عنه أثناء سرد قصَّته، يقول “نحن ستّة إخوة ذكور، تزوّج كل منا في شقة من أملاك والدنا في بناء واحد، لكن بعد الثورة ونتيجة للقصف والتصعيد على الغوطة الشرقيّة اضطررنا جميعًا للخروج منها، وبقي في البناء أبي وأخي الأصغر، تركتُ منزلي الصغير والأثاث الذي عملت سنوات لتأمين ثمنه، وجهاز زوجتي التي كانت عروسًا حينها، تركنا ذلك كله وخرجنا”.

مع مرور الأشهر والسنوات باتت عودة عدنان وزوجته إلى الغوطة مستحيلة، سافر بقية الإخوة إلى تركيا، وبقي هو في ريف دمشق بعد أن رُزق بتوأم، يتابع قصّته “اتصل بي أحد أصدقائي يرغب بالزواج في منزلي، ونظرًا لأن العودة اليوم مستحيلة للغوطة وافقنا أنا وزوجتي، يكفينا أن أحدهم سيعتني بالمنزل ويعيد إليه روحه”.

تنازل عن الملكية

توفّي والد عدنان بعدها بأشهر، وهنا فوجئ بصديقه يتصل به ويحمل له أخبارًا سيئة، “اتصل بي صديقي يخبرني أن أخي طلب منه إخلاء المنزل، فملكية البيت له وهو لا يرغب بأن يستقبل أحدًا فيه، كان هذا بعد أن طلبت زوجة أخي من الجارة كل ما في المنزل من (جهاز) زوجتي وأخبرتها أنه لها وأنها تركته وديعة في بيتنا”.

علّل عدنان الموضوع لصديقه بأنه سوء فهم بالتأكيد، وأنه سيتواصل مع أخيه “أخبرته أن لا يقلق أبدًا فلن يُخرجه أحد من البيت، لكن يبدو أنني كنتُ مخطئًا”.

بعد عدة أيام من التهرب، أجاب الأخ على مكالمة عدنان، “وهنا كان الخبر الصاعقة”، يتابع عدنان “أخبرني أن أبي وقّع له ورقة تنازل عن كافة ممتلكاته، وأنه يرى هذا عادلًا أمام صبره، وعندما شكّكت بالموضوع أرسل لي صورة سند مكتوب يفيد بتنازل أبي عن كافة ممتلكاته لأخي”.

يرى عدنان أن الموضوع في مجمله كان حيلة على والده، الذي عانى من المرض والنسيان في آخر شهرين من حياته، لكنه عاجز عن إثبات أي شيء، ويضيف “بيني وبين أخي اليوم جيوش وحواجز، كانت العودة لبيتي حُلمًا، واليوم صارت أكثر استحالة”.

لا مكان لكِ هنا

“لا مكان لك هنا”، بهذه العبارة صرخ العمّ طاردًا السيدة وصال من ملك والدها، وهي سيدة متزوجة من أهالي مدينة حمص، غادرت سوريا إلى لبنان أيام التصعيد الأمني على مدينتها وعادت منذ عام تقريبًا، تقول السيدة “توفّي والدي في لبنان، وبما أنه ليس لي إخوة، ولوالدي أخ واحد غير متزوج، فالميراث يعود في هذه الحالة لي، عندما رجعت إلى حمص منذ عام وذهبت إلى مزرعة والدي فوجئت بعمّي يطردني من أملاك أبي، ويخبرني أنني لستُ من عائلتهم وأنه مالك المزرعة”.

كانت وصال أخذت في حساباتها أسوأ الاحتمالات، مثل قصف المزرعة أو وجود جنود للنظام فيها، لكن ذهنها لم يتخيّل هذا السيناريو الفريد، تضيف “تركتُ لبنان لأعود وأعتني بمزرعة والدي أنا وأبنائي، لكني فوجئت بأنه لا مكان لي فيها”.

 لستُ الوحيدة

عندما لجأت السيدة وصال إلى الشرطة أخبروها بحاجتها لمعاملة حصر الإرث، وأوراق من السجل العقاري تفيد بملكيتها، ومصادقة من الكاتب بالعدل تؤكّد ذلك كله لتتمكن من استعادة أملاك والدها، تتابع “بدأت بالإجراءات فعلًا، وصحيح أن الحق إلى جانبي إلا أن تسيير المعاملات ليس سهلًا، فوجئتُ في أروقة السجل العقاري بعشرات الحالات المشابهة لحالتي لأشخاص عادوا ليجدوا أملاكهم بحوزة أشخاص آخرين، قصص كهذه كنّا نسمعها في التلفاز ونتعجّب، لكن الحرب والنزوح والهجرة زادوا احتمال حدوثها بشكل كبير”.

تمكّنت السيدة وصال بعد جولات عديدة في الدوائر الحكومية أن تثبت حقّها في الأرض وعادت لها في النهاية، لكنها تستدرك “لو كان غريمي من طرف النظام أو له رتبة في الحكومة لما تمكّنت من استعادة حقّي نهائيًا، لم أكن لأتجرأ أن أستعين بالشرطة أساسًا، كل ما أتمناه بعد كل هذا التعب ألا أضطر للخروج من أرضي ثانيةً”.