نبكي على ثورة تشبهنا ونبكي خسارتنا.. ونسأل: أيّ عام هذا المقبل؟

لكلّ امرءٍ من اسمه نصيب، وكلاهما ناجي العلي الفلسطيني وناجي الجرف السوري اغتيل في أرضٍ غريبة في وضح النهار بمسدسٍ كاتمٍ للصوت. إذ وقبل ساعات من مغادرته إلى فرنسا مع عائلته المكوّنة من زوجته بُشرى وطفلتيه، أطلق مجهولون النار من مسدس مُزود بكاتم صوت على الإعلامي السوري ناجي الجرف في وضح نهار يوم 27 كانون الأول/ديسمبر 2015 في مدينة «غازي عنتاب» التركية، حيث عمل الجرف المعروف بلقب «الخال» إعلاميا وسياسيا وعضوا في تيار «مواطنة»، وفي نعيه الذي أصدره المكتب الإعلامي للائتلاف الوطني أشار البيان: (تلقى الشهيد «الجرف» تهديدات بالقتل من قبل إرهابيين، بعد انتشار فيلمه «داعش في حلب»؛ الذي تناول اعتقال واختطاف الناشطين الإعلاميين؛ وتطرق لمجازر اتهم بها التنظيم في مدينة حلب)، الأمر الذي أشار إليه النعي الإعلاميّ الذي أصدرته أكثر من مجموعة إعلامية.
اغتيال «ناجي الجرف» أثار على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة «فيسبوك» موجةً عارمة من الحزن قد تكون الموجة الوحيدة التي أعادت لمّ السوريين المُشتتين في انكساراتهم طوال هذا العام. أجل، للأسف، ربما اعتدنا كسوريين أخبار القصف وصور الدمار، وربما غرقنا في هزائمنا الموسومة بقلم المجتمع الدولي وقراراته، كجهات سياسية كما كناشطين وأفراد حلموا بالتغيير الجذري وبسوريا جديدة، فكنّا بحاجة إلى خسارة بهذا الحجم، خسارة رجل صادق يشبه الثورة التي كانت، ليطلق كلّ هذا الدمع المحبوس. إذ أشار كثيرون إلى أنهم لا يعرفون ناجي الجرف شخصياً، لكن في خسارته خسارة إضافيّة للثورة التي كانت، ذاك الحراك السلمي، المدني، الذي قاده شباب وصبايا طيبون كرام، لا يهتمون باسم طائفتك، بل يحترمون مزاجك ويسألون عن معدنك وأخلاقك، شباب لم يهتموا بصناعة اسم، بل بخلق تغيّر،ويغنون علّ صوتهم يكون أكبر من خوفهم، وهم يواجهون نظاماً يعرفون تاريخه جيداً، تاريخه في الاعتقال التعسّفي والتغيّيب القسري والموت تحت التعذيب.
بمسدسٍ كاتمٍ للصوت اغتيلَ ناجي الجرف فتيّاً من مواليد عام 1977، بكاه سوريون كُثر، داخل سوريا بعضهم ومعظمهم في بلاد الشتات، ولم يسأل أحد عن طائفته، ولم يسأل أحد عن اصطفافه السياسي فعمله كمؤسس ومدير تحرير مجلة «حنظلة» كان كافياً للتعريف به، عمله طوال الفترة الماضية داخل سوريا من السلميّة إلى دمشق ودرعا دعم المحاصرين عبر محاولة إيصال المواد الإغاثيّة، حيث أصيب برصاصة وقتها،، ومن ثمّ خارجها في دعم الناشطين الإعلاميين وعبر مساهمته في تأسيس مشروع «بصمة سورية» الإعلامي. خسارة «الخال» ذكرتنا بأننّا كنا يوماً أكبر من مهاترات الاصطفافات السياسية حين كان الحلم أكبر، حين كنا أفراداً لا نطمح لأن نكون أكثر من مواطنين، ولم نكن نخشى الكلمات البسيطة والأغاني والفرح.
كذلك لم يسأل أحد عن صدقيّة الخسارة في اغتيال الجرف، ولم تطّلب وفاته شهادة من أحد، هذا الموت الذي أتى بعد أقل من يومين على استهداف الطائرات الروسية لأحد مقرّات فصيل «جيش الإسلام» العسكري في منطقة الغوطة الشرقية التي يُسيطر عليها التنظيم، مُسفِراً عن مقتل رئيس التنظيم زهران علوش ومجموعة من رجالاته. الأمر الذي أطلق جدلاً محتدماً بين من رآه «شهيداً» لأنّه قتل بيد العدو الروسي، ومن رآه «شهيداً» لأنّه قتل في الغوطة المحاصرة، وبين من لم يستطع تناسي تجاوزات علوش وتنظيمه ولا الأسئلة الإشكاليّة حول سياسته العسكرية في مقارعة النظام كما ادعى. والأهم تسبّبه في خسارة أصوات مدنية سلميّة حاولت أن تعمل وتنشط في منطقة الغوطة الخارجة عن سيطرة النظام السوري. أجل، نعترف بأنّ أكثر من رثى ناجي الجرف هم أولئك الذي يشبهونه وقلّ ظهور الأسماء الإسلاميّة أو المرتبطة بالعمل العسكري، ممّا يُثير الاهتمام حول تعاملنا مع ذلك الآخر الذي يختلف عنا وكيف يتعامل هو معنا، فهم غير معنيون بخسارة الكلمة لصديق وفيّ، لكنهم مستمرون في الدفاع من أجل تحديد تعريف لمقتل قائد عسكري التبس أمره كثيراً، ونحن منقادون خلفهم. فكان اغتيال ناجي صفعة ذكّرت من يشبهونه بهويتهم التي كانت، وجعلتنا نقف للحظة بعيدين عن صراع اتخاذ موقف من قضية علوش، التي أنستنا أخبار المحاصرين في معضميّة دمشق والقصف في حلب وحتى بهجة احتفالات نهاية العام، فهل لنا أن نعتبر؟
بمسدسٍ كاتمٍ للصوت اغتيل ناجي الجرف في أرضٍ غريبة هو الذي كتب على صفحته في 19 من هذا الشهر: «بعد قرار مجلس الأمن الأخير وحدها عائلتي وأولاد اختي من يحتاج ساعات عمري الأخيرة»، وأرفقها بهاشتاغ (‫#‏صحافة_المواطن_باقية). في هذا السياق أشار تقرير «مراسلون بلا حدود» في نهاية العام إلى ارتفاع عدد الصحافيين المحتجزين، وسوريا كانت في صدارة البلدان حيث «يوجد أكبر عدد من الإعلاميين المحتجزين في أيدي الجماعات غير الحكومية (26)، علماً بأن 18 منهم مازالوا في قبضة الدولة الإسلامية وحدها، في سوريا والعراق على وجه التحديد». فهل تُشهر هذه الجماعات الجهادية المتطرّفة سلاح الاغتيال في وجه المدافعين عن حريّة الرأي والتعبير وأصحاب الأقلام؟ هل تريد تقديم استراتيجيتها للعام المقبل بالقول إنّها قادرة على استهداف الأصوات السلميّة، المدنيّة، المُفكّرة التي تواجه منطقها التسليمي الإقصائي في أيّ مكانٍ كان وفي أيّ زمان، وبأنّ صراعها مع أصحاب الأقلام عابر للحدود الجغرافية ويتجاوز قضيتها المُعلنة بتأسيس دولة خلافة مُحددة المساحة جُغرافياً؟!
في خسارة ناجي الجرف نتذكر الحقيقة التي رماها في وجهنا قبل أيام: (لوقت قصير كنت أحلم بقبر صغير يغمرني على تلة لطيفة بقرية اسمها فريتان شرق مدينتي بالقرب من قبر جدي وخالَيْ حسن وحسين. اليوم حتى هذا الحلم أمسى بطرا وترفا. تباً لنا من عجّاز في هيكل شباب. تباً لنا من عجّاز). لكن يا ناجي كيف نقارع من يفرض عليك شكل وجودك أو يُلغيك؟ من يعتبر اغتيالك ثواباً له؟ من لا يسمح لك بأن تكون سوى كما يريد لك أن تكون؟ كيف نقارعه سوى بالكلمة، وبأن نكون شهداء إضافيين في قافلة تعبر الوطن العربي عبر تاريخه الحزين من فلسطين إلى تونس، وسوريا ولبنان، وكلّ أراضي الزيتون.

القدس العربي