ترى هل نملك وعيا تجاه ما تفعله اللغة من تشويه بأفكارنا الأصلية؟ أي أننا لو نتركها بمزاجها ستفرض علينا أشكالا ومعانيَ قد لا نريدها ومرغمين نضطر لقبولها؟

قال بلاكمور، في فصل من كتابه “مزدوجات”، إن من يقرأ شعر باوند عليه أن يعرف الإشارات الكلاسيكية والتاريخية، ومن يقرأ لأليوت لا بد أن يتعرف على الأفكار والمعتقدات ونُظم المشاعر، ومن شاء أن يقرأ لستيفنز فأنه يحتاج الى المعجم وحسب، أي حين نريد أن نفهم شعر باوند علينا أن نتعلم التاريخ، وعلينا أن ندرس اللاهوت لنقرأ شعر إليوت، وبجانبنا المعجم كي نفهم شعر ستيفنز.

هذه وجهة نظر نقدية لا نتفق معها ضمنا، لكنها تشير الى الإتجاهات الشعرية لهؤلاء الشعراء، فالكتابة أما أن تقف عند حد ما وتكون تجربة في نطاق الواقع، أو تلك التي تتجاوز هذا الحد وتخلق شيئا ما من طبيعة ازدواجها، أو من شكل رموزها، أو من اكتشاف قواها التأثيرية.

وتلك الكتابة تكون خارج طبيعة الحدود المعروفة في الحياة، أي أنها تعيد وضع المفاهيم المتداولة عن الجمال، وكذا إعادة كيفية الوصول للقيمة الإنسانية الرفيعة حين يرتفع مفهوم اللغة من كونها ليست وسيلة كما كان يعتقد سابقا، ولكنها تركيب لحياة وشخصية لها خصائصها المختلفة، وعلى الشاعر مراعاتها.

فهل نملك وعيا تجاه ما تفعله اللغة من تشويه بأفكارنا الأصلية؟ ونحن نستظل بذلك التشويش، أي أننا لو نتركها بمزاجها ستفرض علينا أشكالا ومعاني قد لا نريدها ومرغمين نضطر لقبولها، لذلك يعمل النقد على منح النص قيمة تعويضية، لم يتوقعها الشاعر حين يصل النقد الى أنظمته الفكرية والنفسية والتخيلية بمقود الإدراك الجمالي للظاهر من النص وللمختبئ في باطنه، وآنذاك تتحقق الرهبة العظمى عند التوقف أمام العمل الإبداعي.

إن المراجعات النقدية للأعمال الأدبية المنتجة، تعني إن تحليل هذا العمل أو ذاك من أجل تمييز الخصائص والجزئيات وإيجاد ما هو مكتمل وما هو بحاجة لإكتمال كي نتمكن من أن ندرك عقليا وأن نتحسس عاطفيا ما تصنعه المخيلة، وما يدفع به العقل باتجاهها لأن النقد لا يحكم من واحدة من أدواته الإنتاجية التي يتعامل بها مع النص كونه جهدا يتكرر من لحظة لأخرى، ويحاول في أغلب الأحيان تشويه الظاهر لمواجهة الخفاء، وهو ما يجعله، أي النقد طليقا في الوصول للحالات الإستثنائية المبدعة.

وقطعا يتعلق ذلك بقدر كبير بمفهوم النقد لدى الناقد وكذلك قدراته على تطويع مجمل النظريات النقدية لوضع قاعدة ما عن أبجدية نقدية وظيفتها ليست البحث في أجزاء الصورة الشعرية فقط وكيفية إستخدام الرمز ونوع اللغة، إنما الإمساك الشمولي بكل ذلك الخليط لإسعاف اللحظة المهمة التي تبعث القدرات التحليلية في خبايا النص، فالنقد المبدع يبدو نصا مبدعا لما يكتنز من مستويات لا حصر لها مما عرفه كولردج أن غاية النقد أن يقيم مبادئ أخرى للكتابة، وهو ما يعني أن مستويات الثبات في التوجه نحو النص الشعري دائما تكون غير مقنعة، خصوصا تلك الجوانب التي تتعلق بالوصول القطعي لإطراء النص، بعد أن يعي الناقد موصلاته النهائية التي تقود لذلك التشخيص ومنها على سبيل المثال إيجاد المفاتيح اللازمة لفتح الشفرات الفلسفية في النص والتحسس ببواعث الذات وسيطرة الناقد على مناخه الجديد وقطع دابر المناخات السالفة التي ولدها نقده لنصوص أخرى سابقة.

نجد في مثل هذه الحالة أن النقد يتعمق في مديات خارج حدود النص، ولكن ضمن أجوائه، بحيث يدرك الشاعر عظمته من خلال تلك القيمة التعويضية، التي قدمها النقد لهذا النص أو ذاك.

إن ما يعيب على مفهوم بلاكمور في النقد، أن بلاكمور لم يكترث بالتركيب بين الطرق النقدية، أي أنه لم ينظر الى حداثة النقد الحديث، بحداثوية؛ وليس من الإعتراض هنا بقدر وبآخر عن نوع تلك التعويضات ومستوياتها المتباينة، التي تختلف من ناقد لآخر، بقدر ما أن مجالات النقد مجالات خصبة وغنية، بغض النظر عن التباين في المنظور.

وهذا الإختلاف يكون واضحا عندما يدرك الناقد التحولات الآنية للغة وصولا الى مزاجيتها حين يبعث بمفاتيحها التي ترشده الى دلالاتها غير المألوفة وغير المتوقعة.

قيس مجيد المولى