ذلك اليوم المشؤوم بعد عودتي من دمشق في رحلة بحثٍ عن أخي المعتقل منذ سنة ونصف ولا نعلم عنه خبراً. تم اقتيادي من أحد الحواجز في مدينة حمص إلى فرع الأمن السياسي بعد أن قالوا لي: “عشر دقايق بالفرع ما رح نأخرك”. دخلت إلى زنزانة منفردة مساحتها 2 م٢ بعد أن جردوني من حقائبي وأي أدوات حادة، حتى ربطة الخف. كان في الغرفة ثلاث نساء من مختلف الأحجام، إحداهن عجوز من الوزن الثقيل لم يبق مرض إلا وابتليت به، قد تمددت على الأرض، ولم أجد لي مكاناً إلا الوقوف. انتظرت انقضاء العشر دقائق حسب الوعد، لكنها امتدت ولم أجد لها نهاية.

كانت الرطوبة قاتلة، والعتم مُطبقاً مع أننا في وضح النهار. المرحاض الذي لا يوجد له باب وليس به ماء كان يفصله عن مكان جلوسنا درجة من الحجر فقط. شعرت بضيق تنفس بسبب تناقص الأوكسجين تدريجياً، فالباب الحديدي الذي به فتحة صغيرة لم تُفتَح قد أُحكمَ إقفاله.

توالى مرور الساعات على نفس الحال، إلى أن فُتِحَ الباب ودخلت فتاتان لتنضمّا إليّ في الوقوف ونصبح 6 أشخاص في مكان لا يتسع لأكثر من شخصين. رجوت الله أن أخرج من هذا القبر المظلم الذي أطبق على أنفاسنا، ولم أشعر ببعض الهدوء إلى أن قالت لي إحدى المعتقلات: “لا تخافي. بكرة بتطلعي. فات متل حالتك كتير بنات وطلعوا. بكون في تشابه أسماء”. قضيت ليلتي بشق الأنفس. وفي اليوم التالي فُتِح الباب ونادى السجّان باسمي للخروج، هرعت إليه حافية، فقال لي: “جيبي أغراضك”. فلبست خفيّ وخرجت. ظننت أنهم قد تبينوا الخطأ وآن أوان الفرج، إلى أن وضعوا القيود الحديدية بيديّ، فعرفت أن رحلة العذاب والشقاء قد بدأت.

ركبت في سرفيس أبيض مغلق مع 5 من الرجال في مختلف الأعمار. شعرت بالقلق من مصيري المجهول، إلى أن سمعت المرافقين يقولون أننا قد وصلنا فرع المخابرات العسكرية. بدأت نبضات قلبي تتزايد، فقد سمعت عنهم أنهم لا يعرفون للرحمة ولا للشفقة معنىً . مضى بي عامل الاستقبال إلى مبنى الفرع الرئيسي بعد أن سألني: “شو بتشتغلي؟” فأجبته: “طالبة جامعة”. فقال لي: “والله لأشرب من دمك”. قلت له بعد أن بكيت: “والله ماني عاملة شي”. هذه كانت البداية، ولم أدخل بعد إلى العالم المجهول المنفصل عن الحياة.

وصلنا المبنى، فاقتادني سجّان إلى الغرفة المخصصة للتفتيش. كان قلبي يرتعش خوفاً من اللحظات القادمة، ففي جيبي الصغير ذاكرة لتخزين المعلومات قد مُلئَت بمقاطع فيديو للمظاهرات والأناشيد الثورية، وصور الدمار نتيجة قصف العصابة الأسدية للأحياء. لم أعرف كيف أتخلص منها إلا بعد تفحص المكان بنظرة خاطفة، لأجد شباكاً مفتوحاً ظننته يطل على هاوية، فإذا به يشرف على أرض صغيرة مربعة لا يعلوها بأكثر من متر. رغم ذلك، اضطررت لرميها، فأنا أسمع صوت أقدام تقترب من الباب وعليّ النجاة. ثم دخلت فتاة قامت بخلع ملابسي وتفتيشي بدقة متناهية امتثالاً للأوامر.

خرجت إلى زنزانة الاعتقال، وإذا بها غرفة صغيرة تحوي ما يقارب ثلاثين امرأة قد تزاحمن بالمكان. الضوء البرتقالي القاتم المنبعث من المصباح الكهربائي أشعرني بالضيق، أما القمل الذي ملأ الجدران فقد تسلل إلى شعر النساء وأجسادهن.

الجو العام يسوده الاكتئاب والخوف. مرّ يومان دون أن أقابل أحداً من عناصر الفرع، إلى أن آنت بداية أيامي السوداء هناك.

فُتحَ الباب، وإذا بسجّان يشبه المارد بضخامته صرخ باسمي مرفقاً بالشتائم، ارتعدت خوفاً وركضت إليه مسرعة. غطى عيني بقطعة قماش، وسار بي إلى الطابق العلوي حيث كان المحقق بانتظاري. وما إن وطأت قدماي غرفته، حتى انهال عليّ بوابل من الشتائم والسب والتحقير، وسألني بصوت عالٍ ينبح كالكلب: “هذه لك؟” استرقت النظر من زاوية صغيرة من تحت عصابة العيون، وإذا بهم قد عثروا على ذاكرة المعلومات التي سبق أن رميتها. دسها في كمبيوتر محمول لينظر محتواها. الدليل كافٍ لإدانتي ونعتي بالإرهابية وأخت الإرهابي. استنتجت مرور أخي المفقود عندهم.

لم أستطع الإنكار، فصوري الشخصية قد خُزّنت في الذاكرة. واستمر التحقيق ما يقارب ثلاث ساعات بعد منتصف الليل، من التدمير النفسي والخوف الشديد، إلى أن انتهى بالشبح بعد أن شدّ وثاق يديّ بحبل وربطه للأعلى بقطعة حديد مخصصة لشبح المعتقلين في ممر خارج غرفة التحقيق، حيث يتم تعذيب النساء والرجال من مختلف الأعمار، وذلك لإثبات الولاء بين المحققين والسجانين وكافة عناصر الفرع، وتسجيل أعلى درجات القذارة.

علوت الأرض بما يقارب الشبر. بدأ جسدي الضعيف بالانهيار، فتوسلته أن يحلّ وثاقي، لكن ضحكته النكراء كانت آخر ما سمعته قبل أن أجد نفسي مرمية على الأرض، الأمر الذي أعقب إغمائي. ثم قال لي: “هذا درس صغير ولم تري شيئاً بعد”.

هكذا توالى التحقيق معي يوماً بعد يوم بازدياد مستمر في التعذيب. ففي اليوم التالي خرجت للتحقيق ومثلت بين يديه. كانت فرائصي ترتعد، وأسناني تصطك خوفاً. فهو ومن معه مجردّون من الإنسانية، لا يحترمون امرأة ولا مسناً ولا طفلاً ولا حتى إلهاً، فالكفر واللعن والشتم لغتهم السائدة.

وبعد أن يئس من أن أدلي له بأي معلومة، قال لي: “انقلعي اسبقيني”. هذه الكلمة التي كانت توديني إلى الجحيم في كل مرة أسمعها. لكنه هذه المرة لم يعلق يداي للأعلى كما في المرة السابقة، بل تفنن ومن معه من السجانين والمحققين وعمّال النظافة حتى بإذاقتي أشد ألوان العذاب. فقد ربط يداي خلف ظهري ثم رفعهما للأعلى، فعلوت عن الأرض بما يقارب نصف متر. هذا ما أسموه “شبحة كابتن رابح”.

أصبح ثقل جسدي على معصميّ وبدأ الألم الشديد يتخللهما، لكن الصبر والاحتمال كانا سيّدا الموقف. وهذا ما أثار غضب المحقق وأودى به للجنون، وإذا به يصعقني بالكهرباء لأصرخ وأستنجده واعترف باعترافات هو يريدها وإن كانت زائفة. لكن ظنونه قد خابت في هذه المرة أيضاً، فلم يسمع لي صوتاً ولا استجداءً، كيف لي أن أصرخ وأستنجد، وفي ذهني تتردد مراراً وتكراراً بشارة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لآل ياسر: “صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة”، إلى أن دخلت في غيبوبة دامت لساعات، صحوت بعدها وهم يغرقون وجهي بالماء، وبعد العناء عدت إلى الزنزانة.

انقضت الأيام العشر الأوائل من اعتقالي، كانت من أمرّ الأيام في حياتي، إلى أن تم تحويلي إلى محقق آخر أشد قذارة، هذا بعد أن أتاني رجل غطى وجهه بقناع ليقول لي: “إذا ما غيرتي أقوالك واعترفتِ، رح تتحولي عأقوى محقق بالفرع، وكل العذاب يلي تعذبتيه رح تنسيه، لأن رح تتعذبي أضعافه”.

 

 

 

 

 

سوسن الهبالي | ناشطة سورية | شقيقة الشهيد أسامة الهبالي || alnabad.net