لماذا رجع حمصيو الوعـــــر إلى حيّـــهم ؟

غادرت أكثر من 170 عائلة من مهجّري حيّ الوعر الحمصي، مخيَّم زوغرة الواقع على أطراف مدينة جرابلس في ريف حلب، متّجهةً إلى مدينة حمص بعدَ التنسيق مع وسطاء تعهّدوا بتسوية أوضاعهم وعدم التعرّض لهم، وإيصالهم إلى حي الوعر الواقع تحت سيطرة قوات الأسد.

وكان ما يقارب 26 ألف شخصٍ من أهل الوعر، قد أُخرجوا من حمص مطلع العام الجاري برعايةٍ أمميَّة، بعد حصار طويلٍ فرضته قوات الأسد على هذا الحي، ليوزّعوا على مخيم زوغرة وقرى ريف إدلب الشمالي.

هذا الخبر وقع كالصاعقة على السوريين في الشتات والوطن على حدّ سواء، وطُرحت تساؤلاتٌ كبيرةٌ حول سبب رجوع العائلات إلى حضن الأسد، فهل كان أبناء عاصمة الثورة وحماة قلعتها خونةً؟ وأيُّ محكمةٍ هي تلك التي شُكّلت على حين غفلةِ قانونٍ وعدل، لتصدر بحقّهم هذا الحكم الجائر؟

الّلقب الكبير لا يأتِ دون أمجادٍ أقلّ ما يقال عنها إنّها خارقة، آذار السوريين الأول في عام 2011، وما تلاه من أيّام وسنوات وصولاً إلى 2017، هو من قرَّر أنَّ حمص عاصمة الثورة وحصنها، باباعمرو والخالدية والبياضة وكرم الزيتون وحمص القديمة بأبوابها والوعر، الشهداء والمعتقلون ومبتورو الأطراف والنازحون واللاجئون، هم الذين قرّروا الّلقب واستحقوه، هي إذاً حمص طروادةُ العصر الحديث.

بعد سقوط أحياء المدينة الواحد تلو الآخر، كانت الوعر لا تزال صامدة، وبقيت حتّى مطلع هذا العام آخر حصنٍ تتردّدُ في شوارعه كلمة “حرّية”، سياسة الأسد المتُّبعة في جميع الأحياء والمدن الخارجة عن سيطرته اتّبعها في الوعر، فكان الحصار وكان الموت جوعاً حدثاً اعتياديّاً شأنه شأن الموت بالصواريخ الفراغية.

ومع ترهّل أخلاق المجتمع الدولي، وإمعان الضمير العربي في الغياب، وتجاهل المعارضة السياسيّة بكلّ مسمّياتها لما يجري، تمّ الاتفاق برعايةٍ أمميّة على خروج الأهالي من ديارهم، إنّه الاقتلاع من الأرض،  فهل كانت جرابلس وغيرها تربةً صالحةً ليضرب هؤلاء بها جذورهم؟

مقاطع الفيديو والصور والمناشدات القادمة من مخيم زوغرة وريف إدلب،  تكشف جزءاً يسيراً من معاناة الحماصنة، إذ تقتصر طلباتهم على الماء وما يمكّنهم من البقاء على قيد الحياة، بالإضافة إلى تأمين فرص العمل، وأنا أشرت إلى المطلب الأخير لأنّ طالبه كان يؤكد أنّه وصحبه لا ينتظرون الصدقة والإغاثة من الجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية، إذاً لم يطلب هؤلاء الماء المعدني، ولا الإقامة في الفنادق، بل ناشدوا الجهات المسؤولة لتأمّن فرص عمل تجنّبهم ذلَّ الرجاء، وذلَّ عدسات الإعلاميين، والجمعيات الخيريّة والإنسانيّة، تلك العدسات التي تلتقط الصور السداسيّة الأبعاد لهؤلاء النازحين أثناء تقديمها “صحن الرُز” لهم.

من لم يستطع الحياة في الخيمة القماشيّة، أو هنغار الخيام المتلاصقة بمعنى أدق، حاول أن يستأجر بيتاً يحفظ كرامته، لكنَّ المشكلة هي أنَّ البيوت في جرابلس أو ريف إدلب ليست متاحةً إلّا لمن يملك المال الوفير، فالبيت البسيط يصل آجاره إلى 100$شهريا، أي أكثر من 50ألف ليرة سورية، فمن باستطاعته دفع هذا المبلغ خاصةً إن كان تحت الحصار؟ وهنا نتساءل ترى من أخبر إخوة الدم والقضيّة والوجع أنّ أهل الوعر سيّاحاً؟

تصرّف المضيف مع المضاف لا يمكن تعميمه، فلو كان عامّاً لرجع 26ألف حمصي إلى ديارهم، ولو كان غير حقيقي لما عادَ واحدٌ منهم إلى الوعر ليعيش في ظلّ قاتل ابنه وخاطف ابنته. إنَّ المشكلة تكمن في عدم توفّر حكومة ولا حتّى هيئات مجتمعٍ مدنيّ نظيفة ولو بعض الشيء في المناطق المحررة.

أهل الوعر كغيرهم من السوريين ممّن حُوصروا وحُوربوا بالبراميل والكيماوي ورغيف الخبز وقطرة الماء، وعند تهجيرهم من بلادهم إلى الشمال السوري لم تتنازل الحكومة المؤقّتة لزيارتهم، ولا حتى لالتقاط الصور معهم، ولم يسارع الائتلاف السوري لمعرفة أحوالهم، والعمل على تأمين متطلّباتهم البسيطة. ليجد المهجّرون أنفسهم مرميين هنا وهناك، بعد أن كانوا مادّةً دسمةً لمشاريع إعلامية مربحة، وهاشتاغاً مؤلّفاً من كلمتين.

من وجهة نظري أرى هذا الحدث وصمةَ عار بوجه المؤسّسات الثوريّة أو “دكاكين الثورة” إن حقَّ الوصف، وهذا لن يزعجها بشيء مادامت تعتمد الفاشلين أخلاقيّاً ومهنيّاً وتولّيهم المناصب والمسؤوليات، وهذا ما يتّفق عليه أغلب السوريون المعارضون، لكن في الوقت ذاته أعتقد أنَّ رجوعهم إلى حمص يُفشل مخطّط التغيير الديموغرافي، ولعلَّ من صدح بالحريّة يوماً سيصدح بها من جديد.

بعض الوعريين رجعوا لأنَّ حيَّ الوعر في كلّ الظروف، ليس أشدَّ وعورةً من نفوس بعض إخوة الوطن ومن خيام الشتات، ولعلَّ المعارضة السورية مجبرة اليوم على تحمّل المسؤولية، وإعادة هيكلة نفسها، والنزول إلى حيث الشعب لا إلى حيث المصالح الشخصيّة قُبيل فوات الأوان، لأنَّ ما أُجبر عليه بعض أهل الوعر سيُجبَر عليه غيرهم، وبهذا تكون المعارضة السياسيّة وهيئات المجتمع المدني بديلاً فاشلاً ومنحلّاً وموصوماً باللصوصيّة والمافيويَّة.

إنَّ من فشل هذا الفشل الذريع في إدارة حارة ضيّقة، كيف سيقود وطناً؟ هذا هو السؤال الكبير المطروح على طاولات  المعارضة، وسجادات صلاة الهيئات المدنيّة.

 

 

 

 

أحمد عليان | الأيام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى