قد يبدو المكوّن المسرحي في شخصية الفنانة السورية الراحلة فدوى سليمان (2017-1970) الأقل أهمية بين مختلف اهتماماتها، هي الموزعة بين دبلجة الرسوم المتحركة والسينما والتلفزيون والشعر، وخصوصاً هموم السياسة بعد اندلاع الثورة في سوريا العام 2011.

لكنّ الحضور القليل للمسرح في حياتها -بعد دراسة التمثيل لسنوات في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، ثم متابعة دراستها في باريس- جزء كبير من المشكلة، باعتبار أنّ “معظم خياراتها التالية أجبرت عليها بسبب المسرح المأزوم في بلدها”. هكذا عبّرت ذات مرة حين سُئلت عن اشتغالها في عدد من مسلسلات الكرتون الموجهة للأطفال، فقالت إن الدوبلاج، على أهميته، لم يكن خيارها، بل جاء نتيجة الرقابة على المسرح، وقلة الإنتاج، والمخرجين، والبعثات الدراسية، وطغيان المحسوبيات، ما يدفع الممثل المسرحي نحو خيارات بديلة.

لكنّ الفنانة الهاربة من رقابةٍ على الخشبة، وجدتها أمامها في أعمال كرتونية لم تنجُ هي الأخرى من سياط الرقابة. وهنا كانت صدمتها الثانية. “كان غريباً وصادما أن تتسلط الرقابة على خيال الطفل، بحيث كانت تجري عمليات مونتاج هائلة، كأن تحذف شخصية الساحرة من حكاية ساندريللا”.

وحين قالت إنّ “العقلية الأمنية في سوريا لا تسمح لك بأن تكون حراً على خشبة المسرح”، بدت كأنها تلخص جوهر المشكلة. وهذا ما يفسّر أيضاً عدم تردّدها في الانخراط في التظاهرات التي ملأت الشوارع بدءاً من شهر مارس (آذار) من عام الثورة. كانت تعرف أن الحرية هي المعضلة الكبيرة، هي التي اختارت المسرح في الأساس لأنها ترى فيه الوسيلة الأقدر على التغيير، على ما تقول في واحدة من مقابلاتها. أما السرّ في اعتقادها ذاك، فيكمن في كونها ترى المسرح وسيلة للتغيير في بلد يعيش فيه هذا الفن على الهامش، ولا يُعرف أنّ له في بلادنا دوراً فاعلاً. فهي كانت واعية الى أن تاريخ المسرح ارتبط على الدوام بالتغيير الاجتماعي، من عروض المسرح في أثينا القديمة، إلى المسرحيات التي خرجت من الكنائس إلى الشارع، وصولا إلى بريشت ومايرخولد وأوغستو بوال.

 

مأساة جيل

بضعة عروض مسرحية شاركت فيها سليمان، مثل “سفر برلك”، “بدون تعليق”، “العنزة العنوزية”، “بيت الدمى”، “ميديا”، “صوت ماريا”. هو عدد قليل من الأعمال بالتأكيد، ولكن ربما يصلح ذلك لاختصار مأساة فدوى سليمان وجيلها من ممثلي المسرح الطموحين، هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم من دون خيارات سوى دبلجة أفلام الكرتون، أو المسلسلات التركية والمكسيكية. لم يكن هؤلاء أقل موهبة من زملاء لهم لمعوا هنا وهناك، حتى من دون عناء دراسة المسرح، لكنّها مواهب مقهورة، لفَظَها المسرح بعيداً، وحشرتها لقمة العيش في أماكن قصية من الظهور والتأثير.

ومع ذلك، تظلّ مسرحية “صوت ماريا” (من إخراج مانويل جيجي) هي الأبرز في تجربتها، ليس لأنها مونودراما وضعت فيها سليمان كل طاقتها وموهبتها، وبالتالي كانت وحدها طوال الوقت تحت الضوء، بل أيضا بسبب موضوعها اللافت. فالمسرحية، التي قدمت في العام 2008 ضمن نشاطات “دمشق عاصمة الثقافة العربية”، بدت وكأنها قراءة في أحوال وأسئلة سوريا اليوم، من دون أن تشير إلى زمان الحدث ومكانه، لكننا نسمع فيها عن حكايات النزوح والموت والاغتصاب وحقول الألغام.

يروي “صوت ماريا” (نص للكاتبة البوسنية ليديا شيرمان هوداك) حكاية اغتصابيْن لأم وابنتها. اغتصاب البنت يفضي إلى ولادة طفل تموت أمه لاحقاً تاركة إياه لجدته. الطفل هو هنا ثمرة الحرب، وليس الحبّ. هو ثمرة زواج القاتل بالضحية. طفل يضع الجدة أمام تحدي الاختيار، لكنّ قرارها سيأتي واضحاً وصريحاً في آخر العرض، حين تصرّ على الاحتفاظ بالطفل وتبنّيه. فهل قررت الأم أن تنسى وتمضي إلى التصالح مع ذكرى الحرب، أم أنها أبقت الطفل كشاهد على الجريمة؟

أداء فدوى سليمان كان مدهشاً في ذلك العرض، أثبتت مقدرات عالية في التمثيل، حيث تنقّلت في تلك المونودراما بين أدوار الابنة وطبيبتها، والقائد العسكري الذي تمنّى لهم التيه في حقول الألغام، والقابلة التي ولّدت كل أطفال البلدة من دون تمييز ثم راحوا الآن يبصقون في وجهها.

في ذلك الوقت روت سليــمان لكاتب هذه السطور في حديث صحافي تفاصيل عن هذا العمل قالت فيها: “استــخدمتُ ذاكرتي في استعادة مشاهد مؤلمة، وما أكثرها في هذا الشـــرق. حاولت أرشفة الكثير من المشــاهد بصرياً، منها مثلاً مشهد محمد الدرة (الولد الفلسطيني الذي قتل برصاص الاحتلال الإسرائيلي في مشهد بُث على شاشات التلفزيون). استعرتُ كيف كان الأب يلوّح بيديه ويحرك أصابعه وكيف حرّك رأسه حين مات الولد. استعرت من مشاهد مجزرة قانا الأولى صورة رجل حمل ثلاثة أطفال وكيف راح يتنقل بين الجثث. قرأت “أربع ساعات في شاتيلا” لجان جينيه واستعرت منها أيضاً. اشتغلت على المشهد معنى وصورة”.

إذاً لم يكن “صوت ماريا” عرضاً خارج معادلة “الآن وهنا”. ويبدو أن رادار فدوى سليمان كان حساساً إلى هذا الحدّ، هي التي روت مرة حادثة من أيامها الدراسية الأولى في عمر ست سنوات، قائلةً إن “معلمة المدرسة عاقبت التلاميذ جميعاً في يوم ما بالضرب على أيديهم لسبب غامض بالنسبة اليها. حاولت الاختباء، والهرب من العقوبة، لكنها في النهاية أكلت نصيبها”. وحين سئل التلاميذ مرّةً جرياً على عادة المدارس، “ما هو حلم المستقبل”، فأجاب معظمهم بأنهم سيصبحون أطباء ومهندسين، قالت فدوى “أريد أن أكون قائدة ثورة”. ارتبكت المدرّسة، على ما تروي سليمان، واقتربت منها لتهمس في أذنها الصغيرة “أوعك تعيديها”.

 

في طليعة التظاهرات

في العام 2011 لم تتردد فدوى سليمان في الانضمام إلى التظاهرات التي انتشرت في عموم البلاد. تنقّلت بين أحياء وبلدات عديدة في دمشق وريفها، قبل أن تتسلّل إلى حمص وقراها. شاهدها العالم أجمع عبر فيديوهات تهتف وتصرخ وتتحدى وتقود التظاهرات. ليس غريباً أنها -وربما بسبب ندائها السلميّ- أصبحت من أبرز المطلوبين لقوات النظام. كانت فدوى سليمان البرهان الذي يقلع عيونهم: في انضمامها للثورة، كما في احتضان الناس لها، دليل أكيد على عدم طائفية المتظاهرين. في كونها امرأة، وغير محجبة، وفنانة، تهتف للسلمية إثبات على أن الثورة لم تخرج من المساجد فحسب.

هكذا دُفعت الفنانة إلى مغادرة البلاد مهربة عبر الحدود إلى الأردن ومنها إلى باريس. على الفور وجدت نفسها خارج بيئتها، خارج الدور الذي اختارته لنفسها، خصوصاً، حين وجدت نفسها، وهي الثائرة على الأرض، في دوامة السياسة، ما يفسّر شيئاً من التخبط في خياراتها. تقول: “بعد وصولي إلى فرنسا شعرت بأنه لم يعد لي صوت. بعد أن كنّا الحدث، بات دورنا أن نعلّق على الحدث بلغة غير لغتنا. أحسست بأنني في حاجة الى الكتابة كي لا تضيع اللغة”.

هنا كتبت الفنانة نص مسرحية “العبور” (ترجمته رانيا سمارة إلى الفرنسية، وشارك في “مهرجان أفنيون” و “ليموج” في فرنسا)، قالت إن هذا العمل “ينطلق من تجربتي الذاتية في الثورة ليذهب إلى أسئلة وجودية حول الحياة والموت والحب والحرب”.

النص يأتي أولاً انعكاساً لذلك الضـــياع الذي تعيــشه الفنانة الثائرة، فهو عبارة عن أصوات ذاتية متعددة، تتحاور حول رغبة العودة والانتمــاء إلى شوارع بلدها: “الصوت: هنيك الناس عم تموت وبس. ما لازم تموتي/ الفتاة: وما لازم يموتوا/ الصوت: مو كنتي بدّك تنــامي ع الرصيف تلات أيام؟/ الفتاة: إي، بس بدّي رصيف بذاكرة/ الصوت: كلّ الأرصفة إلها ذاكرة/ الفتاة: بس رصيفي ذاكرتو بتشبهني/ الصوت: اتركي ذكرى ع هالرصيف”.

وفي النص نقاش حول سلمية الثورة والاتجاه إلى حمل السلاح. ومع أن الفنانة كانت حتى اللحظة الأخيرة من دعاة السلمية، إلا أنها في نص “العبور” لا تغفل قوة المنطق الآخر، أي أنها لم تحاول الانتصار لصوتها الخاص: “صوت: شفتي بعينك القنّاصة كيف منتشرين ع سطوح البنايات؟/ الفتاة: شفتن/ صوت: الدبابات؟/ الفتاة: شفتا/ صوت: البي تي إر؟/ الفتاة: شفتا/ صوت: حواجز الشبّيحة؟/ الفتاة: شفتن/ صوت: الشهدا المقنوصين؟/ الفتاة: شفتن/ صوت: وما بدّك يّانا نحمل سلاح…؟!”.

للمسرح شروط عديدة، من بينها الاستقرار والعمل المؤسسي، ولربما كان يقبل السوريون أن يصنعوا مسرحاً لو أن الأمر يتوقف عند حدود الرقابة والمنع لا الاعتقال والتعذيب، وربما القتل.

اختارت فدوى سليمان الثورة، فعلاً مباشراً للتغيير، بعدما اختارت المسرح للهدف نفسه. أبدت شجاعة استثنائية ستبقى للتاريخ، تركت أشرطة فيديو لها موزعة في عدد من التظاهرات من أجمل تاريخ الثورة، من أجمل تاريخ هذا البلد. لا شك أنها، لو أتيح لها المسرح، لن تكون أقل شجاعة.

 

 

 

راشد عيسى | الحياة