التعبير الأسوأ عن الانتفاضة الشعبية السورية هو دخولها قاموس الذاكرة بصفتها ضحية مطلقة. التضحية شيء والتحوّل إلى ضحية شيء آخر. التضحية كلام، أما الضحية فصمت مطبق.
في ذروة التضحيات السورية، حين كان النظام الاستبدادي يحصد المتظاهرين بالرصاص، ارتفع صوت الثورة، كان الشبان والشابات يُقتلون، موتهم كان جزءا من صيحة الحرية وتشكّل لغتها.
يومها كان الموت جزءا من الحياة، بل ربما كان الجزء الأكثر قدرة على التعبير عن معنى الحياة، إطارا صراعيًا من أجل الحرية والعدالة.
بهذا المعنى لم يكن السوريات والسوريون ضحايا، بل كانوا يضحّون من أجل الوصول إلى هدف تلخصه كلمة واحدة هي الحرية، ويرسم طريقه مشروع إسقاط نظام الاستبداد وتحطيم أسوار مملكة الصمت.
لكن مشكلة الثورة كانت في أنها لم تكن سياسية بما يكفي.
يومها، أي مع بدايات الثورات العربية اجتاحنا الوهم بأن الشعوب يمكن أن تعيد صياغة السياسة بلا سياسة، أي بلا مشروع واضح المعالم وقيادات وأطر أيديولوجية تنظيمية تستطيع مواجهة آلة قمع محترفة إلى حدود الإجرام.
هذا ما حصل في ميدان التحرير وفي تونس واليمن وليبيا وسوريا.
خرج الناس كي يملأوا فراغ السياسة بالثورة. وفي هذه الحالات جميعها كانت النخب الفكرية وبقايا الأحزاب العلمانية التي التحقت بالثورة خارج المعادلة الجماهيرية. كان صوت النخب مبحوحا عاجزا عن الوصول إلى آلام الناس الذين انفجروا. ولم يكن هناك سوى قوة وحيدة منظمة استطاعت أن تخطف الثورة كي تقدمها لقمة دموية للعسكرتاريا. هذا هو الدور الذي لعبته الحركات الإسلامية، وهو يبدو واضحا في الحالة المصرية، لأن التقاليد الدولية في مصر كشفت عن اللعبة من خلال الانقلاب العسكري.
الانقلاب العسكري كان تتويجا للثورة المضادة التي قادها الإخوان المسلمون عبر تكتيكات تميزت ببراغماتية انتهازية من خلال التعاون مع المجلس العسكري من أجل خنق الثورة وطرد الناس من الميادين.
أما في سوريا، فقد اتخذت المسألة بعدا آخر، لم يترك الاستبداد من بنية الدولة سوى المافيا، لذا لم يكن في مقدور الجيش أن ينقلب على النظام من أجل انقاذه كما حصل في مصر، فصارت الآلة العسكرية أداة قمع رهيبة، وما لبث القمع أن بدأ في تفكيك آلته نفسها، ما اضطره إلى الارتماء في أحضان إيران ومليشياتها، قبل أن تسلم البلاد للتقاسم الإقليمي والدولي بطريقة مشينة تدل على المنحدر الذي يستطيع التحالف المافيوي العسكرتاري الوصول إليه.
من ناحية أخرى، اجتاحت الأصولية الجهادية مناطق المعارضة الشعبية السورية ودمرتها، وكان هذا ممكنا نتيجة ضعف قيادات المعارضة من جهة والدعم الخليجي والتركي للأصوليين من جهة ثانية.
وصارت سوريا ملعبا وحقولا للموت. إخراج الناس من المعادلة، هو شرط الوصول إلى هذه المرحلة. وهذا ما تمّ عبر تحالف غير معلن بين القوى الإقليمية.
وكان النظام الاستبدادي هو الباب الذي دخلت منه القوى الخارجية المتصارعة.
ووصل الأمر إلى قمة البؤس، حين صارت سوريا أرضا للتعبير عن الخلافات الداخلية، كحال بعض القوى اليسارية التونسية التي جعلت من دعمها لنظام الاستبداد السوري طريقتها للتعبير عن رؤيتها لخلافاتها مع القوى الإسلامية التونسية.
واليوم لم يعد أحد يسمع صوت الضحية السورية، فالضحية لا صوت لها، إنها مجرد أرقام بلا أية دلالة.
المجازر التي ترتكب اليوم في دير الزور والرقة تمر في الإعلام هوامش على الصراع الإقليمي المحتدم وعلى تسوياته المؤقتة.
كأن الموت السوري ليس موتا. هذا هو مصير الضحية، الصمت كَفَنُ الضحية، فالضحية لا تحكي، والكلام الذي ينسب لها، أو الكلام عنها هو مجرد تأويل، يتصارع عليه المنتصرون و/أو مثقفون هامشيون.
يحاول التأويل قراءة الأحداث لكنه لا يستطيع قراءة صمت الضحية.
الصمت الذي لفّ سوريا أربعة عقود من حكم آل الأسد انتظر طويلا قبل أن يتحول إلى نص في المظاهرات والاحتجاجات والأهازيج التي انفجرت مع انفجار الدم. صحيح أن الثقافة في سوريا حاولت التحايل كي تقترب من القدرة على التعبير عنه، لكن كل أشكال التعبير بقيت ناقصة في انتظار مئات الألوف الذين احتلوا الشوارع وكسروا صمت الضحية بالتضحية، وصنعوا بداية لغة جديدة، فكان لا بد من سحقها عبر إعادة الشعب السوري إلى دائرة الضحية.
هكذا اجتمع خوف الأنظمة العربية والإقليمية من الناس، وجنون القوى الظلامية التي هي قفا الاستبداد ، في حلف بدأت معالمه تتشكل اليوم في قرار تقاسم سوريا وليس تقسيمها، وتحويلها إلى مناطق نفوذ.
كانت المذبحة السورية واحدة من أكبر مذابح العالم، شعب تم قتله وتشريده وتحطيمه وإذلاله من أجل أن يصمت.
وحين تصمت تتحول إلى ضحية لا لغة لها ولا أفق.
هذا هو رهان المستبدين العرب والامريكان والاتراك والإيرانيين والروس والإسرائيليين كلهم، أن يجعلوا من سوريا مقبرة للغة العرب، ودرسا نهائيا كي لا يتكرر حلم الناس بالحرية والعدالة والمساواة.
غير أن الطغاة والمحتلين ينسون ذاكرة الحياة التي أشعلها شبان وشابات من طينة غياث مطر وهم يحملون الماء لقاتليهم.
في الماضي نجح الأسد الأب في تأسيس الصمت عبر تحويل مذبحة حماه إلى عبرة ونموذج للرعب والخوف.
أما بعدما تحولت سوريا كلها إلى حماه، فإن تحويل شعب كامل إلى ضحية ليس سوى لحظة مؤقتة.
فالذين خرجوا من تحت عباءة الضحية الصامتة واقتحموا الحرية، صنعوا أفقا لن يستطيع أحد إقفاله، مهما كبر الألم وامتلأ الفضاء بهدير القتلة والمستبدين.