حين أعلنت شبكة نتفليكس قبل أشهر أنّ أوّل إنتاجاتها الخاصّة بالمنطقة العربيّة، سيكون عرضًا كوميديًّا من بطولة عادل كرم، تساءل كثيرون عن المنطق خلف ذلك الخيار. فإن أردنا إنشاء لائحة بأفضل خمسة برامج كوميديّة عربيّة، لن يرد برنامج «هيدا حكي»، الذي يقدّمه عادل كرم على شاشة «أم تي في» اللبنانية، بينها.

بين الخليج، والأردن، ومصر، ولبنان، تجارب كوميديّة أكثر جدارة بالتعاون مع الشبكة الأميركيّة، خصوصًا أن الممثل اللبناني لا يمتلك خبرة فعليّة في الـ«ستاند آب» كوميدي، بل عرف في الاسكتشات الكوميديّة المتلفزة. التوقعات من الكوميديا على طريقة عادل كرم، تضاءلت كثيرًا منذ إطلاقه «هيدا حكي» قبل خمس سنوات. لم يحقّق البرنامج طموح القناة في تشكيل حالة مماثلة لتلك التي خلقها باسم يوسف بعد «25 يناير»، والتي حاول كثرٌ استنساخها وفشلوا. فلماذا، من بين عشرات الكوميديين العرب الذين ينتجون للويب والتلفزيون والمسرح، تختار الشبكة التعاون مع نجم ترك خفّة ظلّه في التسعينيات؟

الهرب من عادل، إليه

أوّل التعليقات على إعلان الشبكة المختصّة بالبثّ على الإنترنت عن إنتاج عرض للممثل الهزليّ اللبناني، كانت: «نحن هاربون من التلفزيون إلى نتفليكس بسبب عادل وأمثاله، فلماذا تجلبونه إلينا؟». بالنسبة لجيل كامل، ارتبط اسم كرم، في أوج «هضامته»، ببرنامج «S.L.Chi» على شاشة «إم تي في» أيضًا، بين منتصف التسعينيات ومطلع الألفية. تشارك كرم في تمثيل فقرات البرنامج الشهير مع أسماء مهمّة في مجال الكوميديا اللبنانية مثل نعيم حلاوي، وفادي رعيدي، ورولا شامية، ونتالي نعوم. كان يكفي لتلك المجموعة أن تؤدّي محاكاة ساخرة لأغنية «الحلم العربي»، أو مشهدًا تمثيليًّا يقلّد المسلسلات المكسيكيّة المدبلجة للفصحى، حتى تشغل المشاهدين لأسابيع. ربما لو فكرّت نتفليكس بإعادة إحياء تلك التجربة، مستفيدةً من «ترند» الحنين العالمي إلى التسعينيات، لبدت انطلاقتها العربيّة أكثر إثارةً للاهتمام.

حين تختار «فوغ» أو «هافنغتون بوست» أو تويتر أو نتفليكس إنتاج محتوىً باللغة العربيّة، فإنّها تعتمد دومًا استراتيجيّة تتناقض مع خصائص علاماتها التجاريّة المعروفة.

 

في خيار نتفليكس، تكريسٌ لنمطٍ «كسول» في العلاقة بين الجهات العالميّة المنتجة للمحتوى، وبين فروعها العربيّة. لسبب ما، حين تختار «فوغ» أو «هافنغتون بوست» أو تويتر أو نتفليكس إنتاج محتوىً باللغة العربيّة، فإنّها تعتمد دومًا استراتيجيّة تتناقض مع خصائص علاماتها التجاريّة المعروفة. قد يكون السبب في ذلك غياب البيانات الكافية حول عادات الجمهور في منطقتنا، أو التصوّرات التنميطيّة المسبقة عن طبيعة المتلقّي العربي التقليدي واهتماماته. ولسبب ما، تتحوّل تلك الجهات بنسخها العربيّة إلى ما يشبه قناة تلفزيونيّة محليّة أو وكالة أنباء حكوميّة. وقعت نتفليكس في الفخّ ذاته حين أطلقت إنتاجها العربي بتجربة «عادل كرم لايف من بيروت»، إذ جاءت محاولتها الأولى بلغة الضاد، معاكسة للمنتظر منها، ومختلفة عمّا تبيعه لنا في خدمتها الأمّ. لا أحد يدخل إلى موقع نتفليكس متوقّعًا أن يعثر على هراء مماثل.

منذ صعود شبكات البثّ على الانترنت، وفي مقدّمتها نتفليكس، والعالم يشهد تحوّلًا في إنتاج المحتوى الذي كان مخصّصًا للعرض على شاشة التلفزيون قبل أعوام. وبعدما استطاعت تلك الشبكات أن تبتكر أنماطًا جديدة في السرد والعرض، اضطرت شبكات التلفزيون التقليدية إلى مجاراتها، وتبعتها هوليوود، مع اقتحام عدد من نجوم السينما مجال الشاشة الصغيرة من جديد. لسبب ما، في أوّل إنتاجاتها العربيّة، تذهب نتفليكس في الاتجاه النقيض، غير مبالية بجيل شبابي يتمتّع بذائقة فنيّة عالية، وبتفكير نقديّ حادّ، ولم يعد يرضى بالفتات، بعد «هاوس أوف كاردز» و«سترينجر ثينجز» (من إنتاج نتفليكس). ذلك ما تحاول الشبكة استدراكه ربما، بالإعلان عن إنتاج مسلسل رعب عربيّ بعنوان «جن» يشارك في إخراجه اللبناني ميرجان بوشعيا (نال شهرة بعد فيلمه الأوّل «فيلم كتير كبير» العام 2015)، ويكتبه الأردني باسل غندور (شارك في كتابة فيلم «ذيب» الذي رشّح للأوسكار عام 2015). قد يكسر «جنّ» لعنة الخيارات غير المفهومة لمنتجي المحتوى العالميين في المنطقة العربيّة. وربما يكون فاتحةً لتعاون مع مبدعين أمثال المخرج تامر محسن («هذا المساء»-2017، «بدون ذكر أسماء»-2013)، وصانعات مسلسل «سابع جار» (2017) آيتن أمين، ونادين خان، وهبة يسري، والفنان أنديل الذي أطلق أخيرًا سلسلة كوميدية على الويب بعنوان «أخ كبير»، وغيرهم.

اللغز المرصود في العرض المشدود

هناك إذًا لغز خفيّ خلف اختيار نتفليكس الفاشل، بكلّ موضوعيّة وتجرّد، لإطلاق مسيرة إنتاجها العربيّة مع «عادل كرم لايف من بيروت». إن كنت تنتظر الحصول على حلّ لذلك اللغز بمشاهدة العرض الممتدّ على 58 دقيقة، فلا تتأمّل كثيرًا. طوال العرض ستبحث عن جملة مفيدة، عن عبارة تدفعك لتحريك عضلات وجهك ابتسامًا على الأقل، لكن لن يعلق في ذهنك إلّا الملل، ثمّ القرف، ثمّ عدم الفهم. ربما أرادت الشبكة أن تطلق مسيرتها بوجه «محبّب» ومعروف وله تاريخ في المجال، مبتعدةً عن المخاطرة في تجربة غير مضمونة. ولكن، بعد تسجيل الحلقة يضاف إلى اللغز الأوّل، لغز آخر: لماذا عرضوه؟ هل يعتقدون أنّ المشاهد العربيّ «يقبل بأي زبالة»؟ قد يكون ذلك تفسيرًا مقبولًا، إذ أنّ قذارات أخفّ وطأة بكثير من تلك التي أوردها كرم في درّة الـ«ستاند آب» النفيسة، كفيلة بإنهاء مسيرة أيّ كوميديّ في العالم. نقول قذارات، لأنّه يصعب أن نجد تعبيرًا أدقّ لوصف ما تضمّنه العرض.

فحين تلقي نكتة عن أعضاء الرجال الذكريّة الضخمة كما عاينتها خلال زيارتك لساحل العاج، فأنت تستقي من تقليد عتيق في النكات العنصريّة وأدبيّات عهود الرقّ. لن تصدّقوا ما تسمعونه في إحدى وصلات العرض، حين يخبرنا كرم أنّه رأى رجلًا أسود يستحمّ في العراء، ويلتقط ورق الموز من شجرة قريبة ليحفّ به جسده! نحن في العام 2018 أليس كذلك؟ حتى المتطرّفون البيض في الولايات المتحدة، باتوا «يفكرون» قبل ترداد تنميطات مماثلة، في معرض الكوميديا. المشكلة أنّ من كتب هذه النكتة وأدّاها، ربما لا يعرف أين المشكلة، ولا يفهم مكمن الفظاعة التي تفوّه بها.

وعلى المنوال ذاته، حين تخبرنا عن طول عضوك الذكري (يا قوم، صرنا نعرف طول عضو عادل كرم، شكرًا لنتفليكس!)، وأنّك تستمني عند مشاهدة مباريات كرة المضرب الخاصة بالسيدات، تكون سبّاقًا في حفر قاع جديد للنكات الذكوريّة. أين مكمن الكوميديا تحديدًا في ربط صراخ اللاعبات بإيحاءات بورنوغرافيّة؟ وأين الكوميديا في اختزال بطلات مثل سيرينا ويليامز وماريا شارابوفا، بتنانيرهنّ؟ علام يجب أن نضحك؟ لم أفهم. عضلات أفخاذ بطلات التنس تحفة من دون شكّ، ولكنّها أخذت هذا الشكل لإلهام الملايين، ولتحطيم الصور النمطيّة عن النساء في الرياضات القاسية. بالتأكيد لم يخطر في بال من أمضين سنوات من الجهد والألم بنحت أجسادهنّ لتكون جديرةً بالميداليّات، أنّ أفخاذهنّ ستشكّل موضوعًا لنكتة تافهة، على لسان كوميدي درجة عاشرة، لم يجد ما يقوله عن كرة المضرب، سوى أنّه يستثار جنسيًّا من تنانير لاعباتها القصيرة!

«الحلو وين؟»

العرض بمجمله عبارة عن سلسلة أقاصيص «طريفة»، اختبرها الممثل: عادل يقبّل أصدقاءه، عادل يأكل عصاعيص الخروف، عادل في المستشفى، عادل في ساحل العاج، عادل يستمني خلال ماتش كرة مضرب، عادل يتذمّر من أشكال المدعوين إلى حفلة عرس (…) وبعد كلّ أقصوصة من أقاصيصه الشيّقة، يقدّم للتالية بالقول «الحلو وين؟». كأنّه يدرك أنّ لا شيء «حلو» في ما يقوله.

يفتتح كرم العرض بالسخرية من إحدى مشاهدات العرض. يسأل عن جنسيات الحاضرين، تقول هي من سوريا بصوتٍ عالٍ وفخور، فيردّ عليها: «أهلًا وسهلًا فينا عندكم». يشتعل المسرح بالتصفيق. لا جديد. لمن لا يعرف، نكتة عادل المفضّلة هي السوريون. كلّما قال كلمة «سوري» أو «لاجئ» يشعر أنّه على بعد خطوة من أن يصير «ذا نكست كريس روك». المجاهرة بكراهية حاملي جنسيّة ما، أمر «حلو»، وكوميدي، وذكيّ، ويقتل من الضحك. في مكان آخر من العرض، يصف عادل عاملًا استقبله في إحدى المستشفيات بالـ«بنغلادشي». لمن لم يفهم، هذه واحدة من العبارات المستخدمة في اللهجة اللبنانية للإشارة إلى عمّال النظافة، إذ تصير جنسية المرء، في الشائع من الكلام، مهنته. يقولون «سيرلكنيّة، فيلبينيّة، سوداني»، وهكذا (…) وهذا أيضًا أمر «حلو»، وكوميدي، وذكيّ، ويقتل من الضحك.

لمن لا يعرف، نكتة عادل المفضّلة هي السوريون

في استذكاره لتجربته في المستشفى، يتحفنا عادل بوصلةٍ ضاحكة مع «القرف»، إذ يخبرنا بالتفاصيل عن محتويات الأمعاء البشرية. ما «الحلو» في ذلك؟ ربما تكون تجربة الخضوع لعمليّة تنظير الأمعاء، قادرة على اجتراح الكوميديا، فالموقف برمّته غريب، وطريف، وإن كان مؤلمًا. لكنّ عادل لم يجد ما يقوله عن تجربة مماثلة، سوى أنّ «الناضور» جعله يشتهي تغيير ميوله الجنسيّة. حسنًا، هل أخبرنا للتوّ أنّه يجهل تمامًا ألا علاقة للشرج بطبيعة الميول الجنسيّة؟ ما «الحلو» في نكتة لا تذكّر إلا بمهزلة الفحوص الشرجية التي اعتمدت «لكشف الميول» في بعض المخافر اللبنانيّة؟

مغامرة عادل في المستشفى لم تنتهِ عند ذلك القدر، إذ استطاع أن يعاين خلال إقامته الفروق الطبقيّة، عبر عقد مقارنة بين ممرضات الدرجة الثانية، وممرضات الدرجة الأولى. فممرضات الدرجة الثانية، أي ممرضات الفقراء وغير ميسوري الحال، بشعات، يمتزن بملامح رجوليّة، ومعاملتهنّ للمرضى خشنة، يكرهن الرجال، وأسماؤهنّ عايدة وإنعام. أمّا ممرضات الدرجة الأولى، فأسماؤهنّ سينتيا وجنيفر، جميلات، ناعمات، لطيفات، يشبهن «أنابيلا» (هلال)، في إشارة إلى مقدمة البرامج اللبنانية التي حضرت برفقة زوجها جرّاح التجميل نادر صعب في صفوف المدعوين الأماميّة. إذًا، نساء الطبقة الدنيا، الدرجة الثانية، خشنات، بشعات، أسماؤهنّ عربيّة، ونساء الطبقة الأرفع، الدرجة الأولى، ناعمات، جميلات، ويتكلمن اللغات الأجنبية؟ هذا ما قصده صح؟ واو. حلو جدًّا. روعة. لو أردت أن تفتح رأس رجل لبنانيّ يختصر في شخصه كلّ خصال الذكورة السامّة، لتكتشف ما يكتنزه ذلك الدماغ من هراء، لم تكن ستعثر على إجابة أكثر بساطة ووضوحًا من ذلك.

في وصلة أخرى، ووسط ضحكات خافتة من الجمهور، يسخر كرم من تقاليد الأعراس، في سلسلة نكات تبدو كأنّها جُمِعت على عجل عن تويتر، يكلّلها بالسخرية من صديقة العروس «التخينة» التي لم «تنفق» (تتزوّج) حتى الآن لأن «ما في مين يشيلها» (لم تجد من يقدر على حملها). وهذا أيضًا أمر «حلو»، وكوميدي، وذكيّ، ويقتل من الضحك.

في هذا العرض، الكوميديا ليست أداة للمساءلة أو الرفض، بل مجرّد مساحة إضافيّة لإعلان الطاعة والامتثال للتنميطات السائدة، ولإشهار التماهي مع الأعراف بكافة تجلياتها السلطويّة.

من بين كلّ المشاهد الكوميديّة الممكن تخيّلها عن ليلة الدخلة، لم يجد عادل ما يمتع به جمهوره، سوى تقليد بعض وضعيات أفلام البورنو (…). جمع الممثل اللبناني كلّ ذلك «الحلو» في عرضه، واختار أن يخطو نحو العالميّة، بالتنمّر من كلّ من يعدّ، من وجهة نظر فوقيّة وطبقيّة بحتة، هامشيًّا ودونيًّا. في هذا العرض، الكوميديا ليست أداة للمساءلة أو الرفض، بل مجرّد مساحة إضافيّة لإعلان الطاعة والامتثال للتنميطات السائدة، ولإشهار التماهي مع الأعراف بكافة تجلياتها السلطويّة. يفعل كرم ذلك، وفي الصفوف الأمامية من الحضور، سياسيّون لبنانيون معروفون، وشخصيّات عامّة، يضحكون، ويطيّبون.

لا شيء مفاجئًا في هذا العرض، إذ لا يشتّ عمّا اعتاد كرم تقديمه بشكل أسبوعي في برنامجه، للمنافسة على نسب المشاهدة مع برامج أخرى من الفئة ذاتها. في الحلقات المسجلة، نستغرب سبب التصفيق الحاد لنكاته من الجمهور في الأستوديو. التفسير المنطقي الوحيد أنّهم كومبارس مدفوعو الأجر، يتحرّكون بأمر من مدير المسرح. في عرض «عادل كرم لايف من بيروت»، ضحكات، تصفيق، عيون تلمع استمتاعًا بما تشهد وتسمع. هذا على الأقلّ ما سجلته الكاميرا. فهل كانوا يصطنعون ضحكاتهم؟ هل أمرهم أحد بالتصفيق؟ هل كانوا يجارون الجوّ، لكي ينالوا من طيّبات الظهور على نتفليكس نصيب؟ ربما نفهم يومًا لغز تعاون نتفليكس مع عادل كرم، لكننا سنحتاج إلى دراسات معمّقة لاكتشاف ما يجده البعض مضحكًا في أعماله. في غضون ذلك، نصيحة: إن كنتم تهتمون بالحفاظ على نسبة ذكائكم، لا تشاهدوا الإنتاج العربيّ الأصلي الأوّل على نتفليكس، ولو حتى من باب الفضول.

حبر