طبيعي جداً أن يتحفظ وزير الإعلام السوري عمران الزعبي على عبارة “هامش الحرية” خلال حديثه في الذكرى الأولى لانطلاقة قناة “الإخبارية” الحكومية. فالحرية بحسب منطق النظام السوري “القمعي”، مرتبطة بالمسؤولية، وهي الكلمة التي يكررها الزعبي في كافة لقاءاته قاصداً بها “الالتزام بالقيم الوطنية التي يمثلها النظام السوري وفكر الممانعة”، تحديداً في زمن “الحرب الكونية”.
كلام الزعبي لم يكن فيه مجاملة على الإطلاق، وأتى رداً حاسماً على مداخلة “فارقة” لمدير إذاعة “شام إف إم” المؤيدة سامر يوسف في الحلقة الخاصة التي استضافت فيها “الإخبارية” وجوهاً إعلامية وسياسية سورية لتقييم أدائها أمام الجمهور بعد عام من انطلاقتها، قبل أن يتحول الوزير بفجاجة روتينية نحو الهجوم على المعارضة منذ 2011 دون مبرر سوى تمييع الموضوع وتشتيت الانتباه.

يوسف كان الاستثناء في الحلقة، فابتعد عن المجاملات التي تكررت حتى على لسان معارضي الداخل أيضاً (محمد مرعي وإليان مسعد)، وقال “بجرأة” أنه لا يوجد حرية إعلامية في البلاد، وأن ما يقدمه الإعلام السوري “الوطني” مرهون بهامش الحرية الضيق المسموح به من قبل القيادات السياسية، وأن إذاعته تتجاوز تلك الخطوط أحياناً “كنوع من المغامرة الشخصية” قبل أن يتم توجيهها باتصالات هاتفية من الوزير نفسه!.

الحديث بفجاجته لم يكن صادماً للحضور، وبدا مركباً كونه يظهر على شاشات رسمية اعتادت تقديم المسرحيات المماثلة، لغاية واحدة هي تقديم صورة براقة للإعلام الرسمي أمام المتابع الخارجي، حيث ينتقد أحدهم الوزير مباشرة دون خوف ويرد عليه الوزير برحابة صدر وابتسامات براقة، ونهايات سعيدة بأيام أفضل وتطوير منتظر بإشراف “القيادة الحكيمة”!

اختيار يوسف للحديث عن الحرية الإعلامية دون أي من الحاضرين أو المغيبين من بقية مديري الإذاعات السورية الموالية، ليس عبثياً. فـ “شام إف إم” هي إحدى أقرب وسائل الإعلام غير الرسمية من النظام، ويمرر عبرها كثيراً من التسريبات والأنباء وحتى الشائعات، كمنفذ  غير رسمي في ظل عدم تصديق الجمهور السوري، في الداخل تحديداً، لمنظومة الإعلام الرسمي ككل، ومن هنا يأتي دور المنظومة الرسمية في إضفاء البريق على “شام إف إم” في مثل هذه المناسبات وطرحها كمنبر الحرية الأول في البلاد.

ومهما كان حديث يوسف مركباً ومسبق الصنع، إلا أنه يحمل قدراً لا بأس به من الحقيقة دون شك. فالإعلام السوري طوال عقود عانى من الخشبية والتوجيه وتحول إلى إعلام يحاكي نفسه ويجتر خطابه لعدم وجود جمهور يتابعه، حتى وصل إلى حالة الانفصال عن الواقع. كما أن الطبيعة المافياوية التي تسيطر عليه من الداخل جعلته يحافظ على نوعية سيئة من الخطاب الرديء دون مواكبة الزمن، حيث تحل العلاقات الشخصية مكان الكفاءات المهنية في تحصيل الوظائف والحفاظ عليها.

حديث المشاركين الآخرين تمحور حول إيجاد مبررات لفشل “الإخبارية” والتي تركزت حول الإمكانيات المادية والفنية الضعيفة، ولم يتطرق أحد إلى مشاكل الإعلام الرسمي على صعيد الترهل في الأداء والضعف على مستوى المهارات الإعلامية الأساسية، وصولاً إلى التوجيه السياسي المباشرعلى الأنباء، إضافة للتأخير في نشر المعلومات وممارسة التعتيم الإعلامي، والشخصانية التي يتم بها التحرير والتوصيف، واستغباء الجمهور ومعاملته كمتلق يجب عليه تقبل ما يملى عليه كـ “واجب وطني”.

يقول فريق “الإخبارية” إن القناة تهاجم وتتهم بالفشل بسبب رأيها السياسي. وهي نقطة خاطئة. فمشكلة “الإخبارية” الكبرى هي خروقها لبديهيات العمل الإعلامي القائمة على فصل الخبر عن الرأي، حيث تنطلق القناة وشقيقاتها في الاعلام الرسمي، من رأي محدد تتم صياغة الأنباء والمعلومات وفقه لغايات محددة سلفاً، وهو الأسلوب القديم المتبع في حقبة الحرب الباردة التي نشأ إعلام البعث فيها ولم يتجاوزها بعد!

المداخلة والجدل المصاحب لها يذكرنا ببرنامج “من الآخر” على الفضائية السورية” في حلقته الأولى العام الماضي، عندما طرح المذيع جعفر أحمد ذات النوعية من الأسئلة “الوقحة” على الزعبي وكانت إجابته تقريباً نفسها كما هي اليوم، وهي الدائرة الصغيرة التي يدور فيها الإعلام السوري منذ ستينيات القرن الماضي والتي يكرر فيها ذاته الرديئة لعدم وجود آليات أو حتى نوايا لتحسينه، كونه يميل للبروباغندا المفيدة لأي نظام شمولي.

“إما أن توجد حرية إعلامية أو لا توجد”، يناقض الوزير نفسه، فسياق العبارة وما تلاها من شروط حدد بها معاني الحرية وسقفها، نسف كل الحماقات التي تفوه بها عبثاً وهو يحاول رسم صورة وردية لوطن لا يعتقل فيه أحد بسبب رأيه أو بلاد فاضلة تقدم إعلاماً مستقلاً رفيع المستوى.

عن المدن