على الرغم من ولادتي ونشأتي سبعينيات القرن العشرين في بغداد، المدينة التي قطنها خليط فريد من الأعراق والديانات والملل والعقائد، وبالرغم من حقيقة أن أسرتي (شأنها شأن معظم الأسر المسلمة في العاصمة العراقية) تتكون من شطرين: أحدهما شيعي والآخر سني، مع تداخلات ومصاهرات بين الجانبين… تأخّرت معرفتي بوجود الطائفية حتى بدايات الثمانينات، تحديداً بعد اندلاع الحرب مع إيران عندما سألني رفيق دراسة ذات يوم عن مذهبي.

لم أدرِ بما أجيب، فلم يسبق لي سماع أي من المفردتين اللتين ذكرهما، ولم أكن أعلم معنى أن يكون المرء شيعياً أو سنياً، وهل يجب عليه الاختيار بين الاثنين، أم أن هناك احتمالات أخرى كأن يكون الشخص مسلماً مستقلاً بلا طائفة، مثلاً! حملت تساؤلاتي الساذجة إلى والديّ لعلي أجد إجابات وافية عندهما، لكنهما وبعد تبادل نظرات قلقة، لم يبوحا بأكثر من أن الدين محبة وأن عمل الخير هو وحده الذي يميّز الإنسان منا عن سواه.

كما ذكرت، كانت لبغداد وقتها، والعراق بشكل عام، خلفية ثقافية واجتماعية إسلامية، لكن أهلها لم يكونوا يأتون على ذكر الدين في جلساتهم وتعاملاتهم اليومية إلا لماماً، وكان نمط عيشهم مقارباً في مفرداته لأسلوب الحياة في الغرب من سفور النساء واختلاطهن بالرجال في مقاعد الدراسة والعمل والنوادي الاجتماعية التي كانت مسابحها مفتوحة للجنسين وتكاد حفلات الغناء والرقص لا تغيب عن جداول فعالياتها الأسبوعية، وحيث كانت الخمور تقدم لجميع الراغبين، باستثناء القاصرين…

نعم، كانت في المدينة جوامع عدة وكنا نحتفل برمضان والأعياد، لكن حتى تلك كانت فرصاً للراحة والتنزّه والتواصل مع الأصدقاء أكثر منها مناسبات للتأمّل أو إحياء الماضي وإرثه، فوالداي، على سبيل المثال، لم يكونا يصليان أو يصومان أو يتردّدان على المساجد، وكان ذلك حال آباء وأمهات بقية رفاقي أيضاً.

لذلك، كان ولوج جيلنا عالم المراهقة – الذي يتسم بالتمرّد والرفض للسائد – مختلفاً بعض الشيء، فعوضاً عن الدعوة للمزيد من التحرّر والانطلاق، جذبتنا هالة التديّن ووجدنا فيها الوسيلة الأمثل لإثبات الذات والاستحواذ على الانتباه، لكن الدين الذي لجأنا إليه وتلقينا مبادئه في المدارس كان أحادي المنظور، مستنداً على المنهج السني ولا ذكر فيه للشيعة، ولا حتى للمذاهب السنية المختلفة.

أذكر أنني انغمست سريعاً في الصلاة والصوم وقراءة القرآن، وكنت أباهي أخوتي بالتزامي. لم يخطر لأحد من أسرتي أن يستفسر أو يعلّق حتى على طريقة صلاتي، فأخوتي كانوا جاهلين مثلي بوجود اختلافات بين الملل في ما تعلّق بالوضعيات ومواقيت الصلاة وسواها من المسائل التقنية، إذ لم يسبق لنا أن رأينا الكبار وهم يصلّون كي نحذو حذوهم أو ندرك اختلافهم…

أسترجع تلك الوقائع الآن بمزيج من الحسرة والندم وأنا أتابع حال عراق اليوم الذي مزّقته الطائفية والعشائرية بعدما فتح الرئيس السابق لهما الباب على مصراعيه إثر اجتياحه للكويت وهزائمه المتعاقبة في الحروب التي تلت. أشعر بالندم لأن سلوكنا المراهق ذاك سمح للانغلاق والتعصّب بالتسلّل الى داخل بيوتنا، الأمر الذي أذكى نيران الكره والعداوة بين الأخوة والاصدقاء حتى تمنى الكثيرون منا لو أننا لم نعرف التدين أو سلكنا سبيل الالتزام الديني قط.

أكثر من ثلاثة عقود مضت على سماعي الأول لذكر الشيعة في مدرستي “كلية بغداد” التي كان قد أسسها في بداية القرن العشرين قسس يسوعيون قدموا من الولايات المتحدة للتبشير بعقيدتهم الكاثوليكية في أرض الرافدين قبل أن تؤمّمها الدولة وتوحّد مناهجها مع بقية المدارس الحكومية، وإن بقيت مقصداً لكثير من أبناء ساسة العهد الجديد، بمن فيهم ابني صدام حسين، عدي وقصي.

سعيت خلال تلك الفترة الطويلة، التي شهدت هجرتي من العراق واستقراري في نيوزلندا، إلى قراءة كل ما وقعت عليه يدي من بحوث وكتب باللغتين العربية والانكليزية عن الأديان وتاريخها وأثرها على المجتمعات المختلفة التي احتضنتها، واستوقفتني التقاطعات الكثيرة التي وجدتها بين المذهبين الشيعي في الإسلام والكاثوليكي في المسيحية على صعيدي العقائد والشعائر على الرغم من القرون العديدة والمسافات الهائلة الفاصلة بين تاريخي وموقعي نشوء كل منهما. ولعلّ من أبرزها:

الحدث الفاجعة

الإيمان بالمعاناة الفظيعة للمسيح على الصليب وبذله الطوعي لروحه وتضحيته بتجسّده الإنساني لخلاص بني البشر وتحريرهم من إثم الخطيئة الأولى تكاد تكون قواسم مشتركة بين عقائد معظم الكنائس المسيحية، لكنها تظهر بشكل أبرز في الكاثوليكية، ويقابلها على الجانب الشيعي ما حدث في كربلاء من ذبح للحسين بن علي بن أبي طالب (حفيد النبي محمد من ابنته فاطمة) وأهله في يوم عاشوراء (العاشر من شهر محرم عام 61 هجري، 680 ميلادي).

الشعور بالذنب

على نحو لافت (أكثر بكثير من باقي الكنائس المسيحية) تركّز الكاثوليكية وتفرّعاتها في أدبياتها وخطبها على وجوب التوحّد مع ألم ومعاناة المسيح، وعلى إشعار التابعين لها دائماً بالذنب والتقصير في إعطاء تضحيته الجسيمة حقها من الالتزام بالتعاليم وأداء الواجبات والطقوس، وهو ما يظهر جلياً أيضاً في خطب رجال الدين الشيعة ولعبها المستمر على ثيمة خذل المؤمنين للحسين عندما يتقاعسون عن تنفيذ أوامر مرجعياتهم أو تأدية التزاماتهم (الروحانية والمادية) تجاهها.

جلد الذات

الجلد المستمر للذات في الأوساط الشيعية والكاثوليكية كثيراً ما يتجاوز مدياته المعنوية إلى التعبير الجسدي من بكاء غزير ونواح ولطم.

يحدث ذلك سنوياً في إحياء ذكرى وفاة الحسين في عاشوراء، وبدرجة أقل عنفاً وأقل صخباً خلال أسبوع الآلام الذي يسبق يوم صلب المسيح (الجمعة العظيمة)، وإن لوحظ تماثل مذهل مع ممارسات عدد من الكنائس الكاثوليكية الآسيوية، حيث يقوم بعض المؤدّين من الفلبين مثلاً بجلد ظهورهم حتى تسيل منها الدماء أو يحدثون قطوعاً فيها بالسكاكين، كما يجر بعضهم الصلبان الضخمة الثقيلة وهم عراة حفاة في مسيرات حاشدة.

اقتضى التنويه هنا بأن الفاتيكان في روما لا يقرّ ذلك التقليد، لكنه لم يتخذ إجراءات فعّالة لمنعه أو حتى تحريمه.

حضور الشخصية النسائية

للعذراء مريم، أم المسيح، حضور طاغ في العقيدة الكاثوليكية وتقديس يقارب التأليه أحياناً. صورتها وتماثيلها تكاد لا تغيب عن الكاتدرائيات الكاثوليكية التي تحمل كثرة منها اسمها أو صفاتها، كما تُذكر فضائلها وحزنها الغامر وهي تشهد صلب وحيدها في مناسبات وصلوات شتى.

على الجانب الشيعي، هناك شخصيتان نسائيتان توازيان وتقتسمان ذكر ومكانة مريم، هما فاطمة بنت محمد وزوجة علي بن أبي طالب وأم الحسين، وابنتها زينب التي شهدت مأساة ذبح أخيها وأهله في كربلاء وتعرّضت بدورها للسبي، فكانت الصوت النائح بذكر فظاعة ما حدث أمام ناظريها، وان بقيت المكانة الأبرز في قلوب أتباع المذهب الشيعي والهالة الأعظم لوالدتها.

الكهنوت

للشيعة مرجعيات كبرى، مقر أبرزها في مدينة النجف في العراق، مع مقار وفروع في مناطق تمركز أبناء الطائفة الأخرى كإيران ولبنان وسواهما. الشيعي مُلزم بطاعة مرجعيته والخضوع لأوامرها التي لا تتوقف عند حدود الشأن الديني، بل كثيراً ما تتعداه الى التدخّل الصريح في كافة مناحي الحياة كما هو حاصل في العراق منذ الغزو الأمريكي في 2003 وحتى اليوم، الأمر الذي يحاذر منه بابا الفاتيكان فيركّز على التوجيه الروحاني مع استثناءات قليلة جداً صدرت فيها تصريحات عنه تتعلّق بالسياسة.

يبقى أن هناك تشابها لافتاً في السلطة الممنوحة للجالس على رأس الهرم الكهنوتي في النموذجين الشيعي والكاثوليكي، وإن اختلفا في كون بابا الفاتيكان يحتل رسمياً كرسي “الرسول بطرس”، بينما لا تزعم المرجعيات الشيعية القيام بدور علي بن أبي طالب أو ابنه الحسين، لكن تقديسها بين العوام والظاهر في إطلاق ألقاب مثل “آية الله” و”روح الله” وسواها على رموزها تُعدّ من القواسم المشتركة بين المنظومتين.

الموسيقى والأناشيد

الإنشاد الديني والتفاعل الجسدي معه لا يقتصر على المذهب الشيعي بل يظهر أيضاً في التراث والطقوس الصوفية، وإن كان مرتبطاً على نحو مركّز بالفاجعة والنواح عليها في الحالة الأولى، فتوجد لكل تفصيلة من الحدث المأساة قراءة أو أنشودة بعينها تذكّر بها في المناسبات المختلفة، وهي سمة التراتيل الكاثوليكية أيضاً التي ألهمت الكثير من الملحنين العظماء في أوروبا لإبداع مؤلفاتهم الكلاسيكية المعروفة.

الرسوم

تمتاز الكاثوليكية عن سواها من الكنائس المسيحية كالأرثوذكسية (والبروتستانتية لاحقاً) بتبنيها لنهج خاص من الفن التصويري لرواية قصص الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد وحكايات القديسين الكثيرة التي تزيّن جدران معابدها وسقوفها على نحو مجسم بارز مختلف عن الأيقونات الأرثوذكسية ثنائية الأبعاد محدودة الألوان والهيئات، كما عُرِفت بتماثيلها ونحوتها التي صنعها بإبداع مذهل أشهر رسامي ونحاتي عصر النهضة مثل ميكيل أنجلو.

الحسينيات والأضرحة الشيعية على الجانب الآخر لا تسمح بإقامة التماثيل، لكنها تختلف عن المساجد والجوامع السنية بوجود رسومات لشخوصها المقدسة كعلي بن أبي طالب وأبنائه من الذكور دون الإناث، وكثيرا ما تُلحَق بهم هالات من النور مماثلة لتلك المعروفة في جداريات الكنائس والكاتدرائيات.

القديسون

ظاهرة وجود القديسين ودورها المحوري في الشعائر والممارسات تُعدّ من أبرز التقاطعات بين الكاثوليك والشيعة وإن أطلق الأخيرون عليهم مسمى “الأئمة” عوضاً عن القديسين.

في الحالتين نجد طقوس زيارات الأضرحة والتمسّح بها وطلب الشفاعة والعون من أصحابها وتقديم النذور إليهم ونسب الخوارق (الظواهر الخارقة) لهم من شفاء المرضى ورجوع الغائبين وسعة الرزق والنجاة من المحن وسواها، وكذلك تخصيص أيام وأعياد ومواسم يتم الحج خلالها سيراً على الأقدام الى تلك المقامات، والزعم أحياناً بظهور أصحابها لأفراد أو جموع المؤمنين والتواصل معهم، علماً بأن تلك المعتقدات والممارسات موجودة أيضا لدى فرق أخرى في المسيحية والإسلام، كالمتصوّفين مثلاً.

ما ذُكر أعلاه نماذج فقط عما يجمع بين عقيدتي وطقوس المذهبَين دون غوص في التفاصيل، فلست مخوّلاً لذلك. هناك أيضاً فرض دفع “الخمس” لدى الشيعة الذي يقابله “العشر” عند الكاثوليك، واختلاف مواقيت الأعياد عن باقي الطوائف، وترقّب عودة الإمام الغائب (المسيح عند الكاثوليك ومعظم الكنائس المسيحية، مع اختلافات في تحديد طبيعة ووقت العودة) كي تتم الرسالة ويسود العدل والسلام…

كل تلك الأمور أثارت انتباهي خلال انغماسي في قراءاتي عن الدين والمذاهب وأغلب الظن أنها استوقفت كثيرين سواي، لكن الغريب والمؤسف أني لم أجد بحثاً رصيناً بالعربية أو الانكليزية يتناول الموضوع ويحاول سبر أغواره ورصد مظاهره وتحليل أسبابه على الرغم من وقوعها جميعاً في صلب اختصاص علوم دراسات الظواهر المجتمعية والدين المقارن، فهل السبب هو الخوف من سوء فهم نية الباحث والخشية من إثارة ردود فعل غاضبة ضده من قبل أتباع الطائفتين؟

لا إجابة عندي عن هذا السؤال، لكنني لا أجد في الإشارة إلى الموضوع إساءة أو تقليلاً من شأن المذهبين ورموزهما أو مشاعر المؤمنين بهما الذين يتجاوز عددهم مجتمِعاً المليار نسمة وفق الإحصاءات المنشورة، بل على العكس هو دعوة الى تقارب أكثر وفهم أعمق لما يجمع بينهما.