في إحدى الضواحي الباريسية، كان على مجموعة من اللاجئين وطالبي اللجوء إيجاد حل لمشكلة السكن والتخلص من العيش والتشرد في الشوارع. ورغم البرد والموقع المعزول، بات بناء مهجور أحد الحلول النادرة لإيواء المهاجرين في العاصمة، ومأوى لحوالي 250 شخصا.

يخرج حسن إلى الباحة الخلفية بقميص صيفي خفيف وحذاء بلاستيكي مفتوح وفوطة صغيرة رماها فوق رأسه تغطي أذنيه، رغم أن درجة الحرارة بالكاد تتجاوز الصفر.

يقف ممسكا بقطعة صابون، خلف صديقه المنحني فوق دلو بلاستيكي يملأه ماءا يجري من خرطوم طويل لا يبين مصدره.

“هنا، نتدبر أمورنا بأنفسنا”، يقول الشاب السوداني متجاهلا برودة الجو، “نغتسل في الخارج، نساعد بعضنا ونأكل مما يتوفر. لا توجد لدينا خيارات أخرى”، لكن “الوضع هنا يبقى أفضل من الشارع”. فبعد أن أمضى حسن أكثر من عام مشردا في المخيمات العشوائية شمال العاصمة باريس، كان لا بد له من إيجاد بديل، فوجد مكانا داخل بناء مهجور بات مأوى للكثير من طالبي اللجوء، في ظل نقص الاستجابة لإيواء الوافدين وحرص السلطات على تفكيك مخيمات المهاجرين كلّما تشكلت.

في نيسان/أبريل 2020، استحوذت مجموعة من اللاجئين وطالبي اللجوء على بناء مهجور لشركة صناعية على أطراف العاصمة باريس*، “كان لا بد علينا أن نتصرف، لا نستطيع البقاء في الشارع وترك الناس دون مأوى”، بحسب اللاجئ التشادي فارس، أحد الممثلين الثمانية المندوبين عن هذا البناء (سكوات).

“الطقس بارد وهناك وباء منتشر، لا نستطيع ترك الأشخاص في الخارج”

يعيش في البناء ذو الطوابق الأربعة، نحو 250 شخصا، بينهم 7 نساء وعائلتان، أغلبهم طالبو لجوء ووافدون جدد إضافة إلى عدد قليل من اللاجئين الحاصلين على أوراق إقامة رسمية، قادمون من السودان وتشاد والصومال والسنغال وساحل العاج والكونغو.

وبعد عملية الاستحواذ السريعة على مدرسة مهجورة في الدائرة 16 يوم الأحد 23 كانون الثاني/يناير، التي كانت مجموعة “فارس” جزءا منها، ونقل المهاجرين إلى مركز إيواء. تمكن نحو 50 شخصا من بينهم، أن يجدوا مكانا آخر يقيمون فيه.

بعد الدخول من الباب الرئيسي، يوجد ما يطلق عليه فارس اسم “المكتب”، حيث وُضعت كنبة وتناثرت حاجات مختلفة (معلبات أغذية ومنظفات وأوراق وملفات مكدسة)، “نحاول مساعدة الأشخاص وتلبية حاجاتهم. يأتي شخص أو اثنين لطلب المأوى يوميا. لا نستطيع رفض طلبهم رغم امتلاء المكان، فالطقس بارد وهناك وباء منتشر. لا نستطيع تركهم في الخارج”.

ويضيف فارس “حصلت على حق اللجوء عام 2016، لكن عدم قدرتي على إيجاد سكن كان عائقا بالنسبة لي على مختلف الأصعدة. فلم أستطع مثلا المواظبة على العمل في أحد متاجر ‘ليدل’ على الرغم من حصولي على عقد دائم هناك، لأنني كنت أعيش في الشارع ولا أستطيع الاستحمام حتى. فقدت عملي بسبب مشكلة السكن”.

كانت تلك الظروف التي دفعت فارس إلى التحرك وتغيير واقعه ومساعدة غيره من اللاجئين، “كان لا بد أن أساعد الآخرين، فالغالبية لا يعرفون حقوقهم”.

ولهذا قررت مجموعة من الناشطين تحويل البناء المهجور إلى مكان استقبال غير رسمي، وحصلوا أخيرا على حق قانوني بالبقاء فيه حتى شهر تشرين الثاني/نوفمبر القادم.

نقص في الحاجات ورعاية صحية غائبة

في البداية كان البناء المهترئ ملجأ لحوالي 150 شخصا، لكن بعد أن فككت الشرطة الفرنسية مخيم سان دوني الذي كان يؤوي حوالي 3,000 شخص في تشرين الثاني/نوفمبر، “تضاعف عدد المقيمين فيه”، ما تؤكده أيضا جمعية “يوتوبيا 56” التي تقدم بعض الدعم لهذا المكان مرة كل أسبوع. (إضافة إلى مساعدات من مجموعة “ويلسن للتضامن مع المهاجرين” التي تمر عليهم مرتين أو ثلاثة أسبوعيا).

يوجد في كل طابق غرف عدة، لا تخلو أبوابها من شقوق وأجزاء تالفة، وفي كل غرفة جهاز تدفئة صغير، بالكاد يكسر برودة الجو، ويفترش الغرفة حوالى 7 أشخاص. لكن الوضع الأسوأ، يكمن في الطابق الرابع، لاسيما داخل غرفة زجاجية على الشرفة، تكدست داخلها الخيام القماشية، التي تهيأ لاستقبال الوافدين الجدد، وغالبيتهم كانوا مقيمين في المخيمات العشوائية شمال باريس قبل أن تفككها السلطات.

أسدلت في هذا الطابق، حواجز قماشية لتشكيل ما يشبه الغرف، لاستيعاب أكبر عدد ممكن من المهاجرين.

غرف يفصلها قماس/ مهاجرنيوز
غرف يفصلها قماس/ مهاجرنيوز

أما فيما يتعلق بالمراحيض وأماكن الاستحمام، فكان على المقيمين ابتكار حلول، يقول فارس “جمعنا 20 يورو من كل غرفة، واشترينا الأغراض الأساسية لبناء 6 حمامات، اثنان مخصصان للنساء ولديهم قفل. وبمساعدة لاجئين هنا يعرفون في أمور البناء، نفذنا المهمة بأنفسنا”.

ويوضح فارس”لدينا نقص في الكثير من الحاجات الأساسية، لا توجد أغطية كافية أو فرشات للنوم”. وبالفعل يبدو نقص الأغراض واضحا، فما إن تُنزل مجموعة من المتطوعين في جمعية “يوتوبيا 56” حمولتها من السيارة، يتجمع المهاجرون قرب المكتب ليأخذ كلا منهم حاجاته.

وتم توزيع حوالي 30 غطاء (لحاف)، خلال أقل من 10 دقائق، وفرغ عاملو الجمعية من معلبات طعام، “جلبنا كيسين فقط، نعلم أن هذا غير كاف، لكن هذا ما استطعنا إحضاره”.

لا يقتصر النقص على الأغراض والطعام فقط، فالرعاية الصحية شبه غائبة عن المكان، وبينما ينشغل فارس بتنظيم الأمور والرد على مكالمات هاتفه المستمرة، يطلب الشاب المنهمك المساعدة من العاملة في جمعية “يوتوبيا” أنجيل (21 عاما)، “هناك شاب يجب نقله إلى المستشفى، سقط من الدرج وعلينا طلب المساعدة”. فتذهب أنجيل لتولي الأمر، الذي لا يبدو أنه حادث غير مألوف.

درج البناء المعتم
درج البناء المعتم

“الأمر الوحيد الذي يمكننا فعله هو الاتصال بالإسعاف”، يكمل فارس قائلا “هناك أشخاص لديهم أمراض لكنهم لا يحصلون على الرعاية، لذلك تواجههم مشاكل صحية دائمة. أستطيع القول إننا نتصل بالإسعاف كل يوم تقريبا”.

لا حلول سكن أخرى.. “نحن نفعل ما لا تفعله الدولة”

على الرغم من هذا الوضع السيء في البناء وموقعه المعزول الذي يبعد عن خدمات المدينة، إلا أنه بات أحد الحلول القليلة بالنسبة إلى المهاجرين في باريس، الذين يواجهون ضغوطا متزايدة من قبل الشرطة.

“لم أكن أتوقع أن يكون الوضع بهذا الشكل في فرنسا”، يقول شاب سوداني وصل منذ 8 أيام فقط إلى باريس بعد أن أمضى 4 أعوام في ألمانيا واستنفد فرص الحصول على حق اللجوء هناك، “يقولون إن السودان بلد آمن. لكني لا أستطيع العودة إلى هناك. لقد تعرضت للاعتقال وألصقوا بهي تهمة متعلقة بالمعارضة السياسية”.

ولم يكن لهذا الشاب العشريني، الذي يفضّل عدم ذكر اسمه، حلول متاحة غير التوجه إلى البناء “لحسن الحظ، لدي صديق هنا، هو من أخبرني بوجود هذا المكان”. ورغم ابتسامته التي تملأ وجهه إلا أنه يبدو تائها تماما في الإجراءات الإدارية “لا أعلم ماذا أفعل، ومنذ دخولي إلى فرنسا وأنا أحاول الاتصال بمكتب الهجرة لتقديم طلب اللجوء، لكني لم أحصل على أي رد بعد”.

يقول التشادي فارس، “آمل أن تنتهي تلك المشاكل من نقص طعام ورعاية هنا. يجب أن نتمكن من التركيز على أمور أخرى في الحياة”، ويختم قائلا “نحن نفعل ما لا تفعله الدولة”.

 

 

 

 

 

 

*نتحفظ على ذكر الموقع بناء على طلب اللاجئين القائمين على هذا المكان.