بعد أكثر من ظهور إعلامي، كمقابلته مع قناة «روسيا اليوم»، وقناة «العربية» في راشد عيسىبرنامج «الذاكرة السياسية» أخيراً، تشعر أن المتحدث باسم «الهيئة العليا للتفاوض» السورية المعارضة رياض نعسان آغا، يحمل في أدائه كل تراث الأداء الإعلامي الرسمي؛ هذه الهشاشة، والفصحى المضبوطة، لكن الفارغة من أي معنى، وقبل كل شيء ثقل ظل يسم مذيعي الشاشة الرسمية، الذين احتلوا المنابر بالواسطة وبطرق ملتوية.
لسنا في وارد الحديث عن تاريخ الرجل، ما فعله بـ «وزارة الثقافة» كوزير فيها، ولا ما فعله بالآثار والمتاحف السورية، ونحسب أن ليس في العالم كله سواه من له صلة بالثقافة ويدعو إلى استثمار قاعات المتاحف والبيوت التاريخية في حفلات زفاف أبناء المسؤولين، وهذا مسجل بكتب رسمية، ومساجلات صحافية صريحة، لن نتحدث عن تاريخه كأحد أعمدة النظام، دعونا نصدق أن الثورة تجب ما قبلها، ولو أن عبارة له قالها على «العربية» أخيراً لا تشير إلى أن الثورة مرت على الرجل. قال نعسان آغا، متحدثاً عن «خلية الأزمة»، تلك التي قضى فيها أربعة من أخطر أركان النظام في ما سمي «تفجير الأمن القومي»، وهم العماد حسن تركماني، وزير الدفاع داوود راجحة، نائبه آصف شوكت، رئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار، قال هم «ليسوا مجرمين، بل ناس فاضلون، ولكن تورطوا في الأزمة. أعرف حكمتهم، ولكن وجدوا في ظرف خاطئ، عصابي».
لننس كل ذلك، فالمشكلة نفسية محض عند المتلقي. إنه أحد المذيعين الأبرز في تلفزيون النظام عبر عقود، ثم ناطق باسمه، ومن ينسى ظهوره أيام «ربيع دمشق» كأحد طرفي «الإتجاه المعاكس» كممثل للنظام أمام المعارض ميشيل كيلو. يستحيل أن يظهر آغا على الشاشة من دون أن يحضر كل ذلك التراث الإستبدادي.
يخطر على البال هنا مسرحية «الموت والعذراء»، مسرحية الكاتب التشيلي ارييل دورفمان، روى فيها حكاية امرأة معتقلة سابقة تتعرف في صوت رجل، ضيف طارىء في بيتها، على الجلاد الذي كان يعذبها بوحشية في معتقلات الطاغية الرهيب بينوشيه، هي لا تعرف ملامحه، تعرف فقط صوته، ورائحته، بل وتتذكره عبر موسيقى شوبيرت التي تحمل عنوان «الموت والعذراء»، والتي كان يضعها أثناء حفلات التعذيب. كيف لها أن تتصرف إزاء جلادها السابق؟ هي التي لم يتح لها أصلاً أن تعرف إن كان تسنى لثورة ما أن تطهره أم لا؟
لا يستطيع المرء إلا أن يتذكر بطل «الموت والعذراء»، كلما ظهر نعسان آغا على الشاشة.

مقدمة مارسيل غانم

مقدمة نارية أطلقها الإعلامي اللبناني المعروف مارسيل غانم لحلقته الأخيرة من برنامج «كلام الناس». مقدمة حملت كلاماً هجائياً لاذعاً للبنان والمسؤولين اللبنانيين، وباتت هي وحدها كلام الناس. أزاحت كلّ كلام آخر في اليومين الأخيرين، وباتت كما لو أنها البديل المعاصر لـ»مقدمة» ابن خلدون.
«لو ما نكون غنم» كانت هي العبارة اللازمة لمقدمة مارسيل غانم، وفي التفاصيل كلام من قبيل «لو ما نكون غنم لما قدروا يغرقونا بالزبالة، نعوم فيها ونأكل ونشرب منها».
دقائق بحالها وغانم يقرع اللبنانين، فيما الكاميرا تجول على وجهي ضيفيه في الأستوديو، يتلقيان الخطبة اللاذعة شأنهم شأن سائر لبنان، هكذا استمر ليصل إلى نتيجة تقول «هيك قطيع بدو هيك رعاة»، وهو بصيغة أخرى يعيد القول «كما تكونوا يولى عليكم».
لكن الخطيب اللبناني، الواعظ المعاصر، لم يستطع أن يحمي نفسه من الوقوع في غلط عنصري قاتل جعله عرضة لنقد لاذع حين قال «لو ما كنا غنم لما قدروا على استبغائنا واستحمارنا واستكرادنا»، كلام دفعه لاحقاً للتغريد (لا أدري إن كانت تنفع مع كلمات من هذا النوع كلمة تغريد) معتذراً بالقول «ورد في مقدمة الأمس عبارة «الاستكراد» فسّرت بمعناها المرتبط بشعب أو إثنية إنما استخدامها ليس بهذا السياق إطلاقاً».
يقدّر المرء وجع غانم، وكل لبناني، من السياسة والسياسيين في لبنان، من أحداثه الجسام، من بينها الحدثان الاستثنائيان اللذان يضعان العقل في الكف، إطلاق سراح ميشيل سماحة، وترشيح سمير جعجع لخصمه التاريخي ميشيل عون لرئاسة لبنان، بحيث أصبحنا بالفعل أمام «لبنان لا يصدّق»، لكن ذلك لا يجب أن يدفع الإعلام إلى لغة شارعية إلى هذا الحد.
ما يهم المرء، أكثر من كل ذلك، هو توهم المذيع غانم لدور رسولي لم يعد المثقفون، ربما ولا الزعماء، يتنطحون له. يتصرف في مقدمته تلك كما لو أنه في خطاب للأمة، وربما يتوقع أن الجماهير في اليوم التالي ستقول قولها في ضوء خطبته!
ليس هذا هو حال غانم وحده، انظروا فضائيات مصر، وحكواتييها وستجدون ما هو أفظع بكثير. والحقيقة أن الجماهير إن خرجت فمن أجل شيء واحد؛ أن تعيد هؤلاء المذيعين إلى حيث يجب أن يكونوا، إلى دورهم ووظيفتهم الأولى؛ مذيعين وحسب.

حين كنا هناك

أول التعليقات على برنامج مذيعة «الجزيرة» السابقة كوثر بشراوي، على قناة «المنار» الناطقة باسم «حزب الله» هو أن قُبلتها، بل عناقها الشهير على التلفزيون السوري، للحذاء العسكري قد أينعت أخيراً برنامجاً تلفزيونياً يحمل اسم «جدل عربي». كان على ما يبدو هو المكافأة على ذلك العناق التاريخي.
قدمت بشراوي البرنامج، في حلقته الأولى بادّعاء فريد؛ نقدم لكم هذا الجدل العربي، بعد وقت طويل من الجدل البيزنطي. علينا أن نصدق إذاً أن «المنار» وبشراوي هما النموذج لجدل مثمر، بناء، وغير بيزنطي.
عنونت المذيعة حلقتها الأولى بـ «صناعة الفتنة في الإعلام»، ويبدو أنها استضافت المذيع جورج قرداحي من أجل مشاهدة استثنائية للبرنامج. لكن ماذا يعرف الرجل، عم يتحدث! بشراوي نفسها يبدو أنها تعرف حدود ضيفها، ولعلها أرادت توجيه السؤال إليها بلغة يفهمها «الفتنة برودكت (منتج)، هل هناك من سيربح المليون بل البلايين من هذا البرودكت؟». وهي تعتقد بالطبع أنها أضفتْ على موضوعها الجدي قدراً من الفكاهة. كمشاهدين نعرف جيداً أن حديث قرداحي بلا طعم، لقد وظفته البشراوي من أجل إعلان التوبة على العمل لبعض الوقت في الإعلام الآخر، ويبدو أن هذا «الآخر» هو كل ما عدا «المنار».
تبدأ المذيعة أولاً بإعلان الندامة «حين كنا هناك، هل كنا جزءاً من مخطط لتمزيق الأمة؟». قرداحي سيجيب بدوره موافقاً ومؤكداً «كنا معاً نحلم بإعلام متطور وشريف، لكنهم جعلوه مطية لتنفيذ سياسات معينة».
كان يمكن لبشراوي أن تختصر وتسمي حلقتها تلك بـ»حين كنا هناك»، فمن الواضح أنه مصمم لهجاء خصومها الألداء في «الجزيرة» و»العربية» وسواهما من «إعلام معاد».
هذه العبارة مثلاً ليست سؤالاً «ميثاق شرف زائف، وناس مستعدة تبيع حالها»، وكذلك عبارة تقول «أليس التشويش من أهم عدة الشغل عندهم؟»، من الواضح طبعا أنها أسئلة إيحائية، إن لم نقل إكراهية.
انظروا إذاً من يتحدث عن الفتنة، إنها مذيعة تظهر في قناة ناطقة باسم حزب يمثل مذهباً بعينه، حزب استنفر وأرسل مقاتليه إلى مختلف البقاع السورية بحجة حماية المقدسات الدينية، وأزهق في سبيل ذلك مئات الآلاف من الأرواح، ودمر وأحرق وشرد الملايين، ولم يمض وقت طويل على صور الجوع التي وصلتنا من «مضايا» المحاصرة. أي فتنة إذاً! ليتك توجهين هذه الحلقة لأهل مضايا.

القدس العربي