بالتوازي مع بدء الهجمات الانتقامية الهمجية الإسرائيلية على غزة بعد هجمات 7 تشرين أول/أكتوبر التي نفذتها حركة «حماس» في غلاف غزة، سجلت الصحف البريطانية يوم أمس الأربعاء هبوطا مهنيا تاريخيا.

لم يقتصر الأمر على ما يسمى «صحف التابلويد» التي لديها تاريخ طويل في تلفيق القصص، وملاحقة البشر، والتجسس على المواطنين، والعلاقة بأجهزة استخبارات أجنبية، بل امتد الأمر للصحف العريقة الشهيرة، التي يعوّل البريطانيون على مصداقيتها في التأكد من صحة ما تنشره، وتقديم الآراء المتوازنة التي تحترم عقل قرائها.

تشاركت، ضمن هذا السياق، صحيفة «الدايلي تلغراف» المعبرة عن التيار السياسي للمحافظين، وصحيفة «التايمز» التي تعبر عن يمين الوسط (وتملكها امبراطورية مردوخ الإعلامية) وصحف أخرى مثل «مترو» (جزء من مجموعة «الدايلي ميل») تكرار مانشيتات على شاكلة: «حماس قطعت رؤوس أطفال في مجزرة» و«مجزرة لحماس تقتل أطفالا ورضعا» و«40 رضيعا قتلتهم حماس».

القصة التي نشرتها «التايمز» كانت لصحافي إسرائيلي يدعى انشيل بفيفر يعمل مراسلا وكاتب مقال في صحيفة «هآرتس» وهو أيضا مؤلف كتاب عن بنيامين نتنياهو. أرسل بفيفر قصته، حسب ما تزعم الصحيفة، من كفار عزة، وهو كيبوتز قريب من قطاع غزة، تعرض لهجوم من عناصر «حماس» وتم اقتطاع المانشيت الخطير من جملة في القصة تقول: «هناك مزاعم أن بعض الأطفال تم قطع رؤوسهم»!

أما قصة «الدايلي تلغراف» فكتبها من إسرائيل صحافيان هما رولاند اوليفانت، وناتاليا فيسيلييفا، وواحد من بريطانيا هو تشارلز هايمس. الأول هو المراسل الأول للشؤون الأجنبية في الصحيفة، والثانية هي مراسلة القدس في الصحيفة، والثالث هو محرر الشؤون الداخلية في الصحيفة.

تعتمد قصة «الدايلي تلغراف» على مزاعم أدلى بها أحد الضباط الإسرائيليين (دافيدي بن تسيون، نائب الوحدة 17) للقناة الإسرائيلية I24 وقال فيها: «لقد قطعوا رؤوس النساء والأطفال» وبعد ذلك يؤكد الصحافيون الثلاثة الذين كتبوا المقالة إن الصحيفة «لم تستطع التأكد من صحة هذا الادعاء!

موقع هيئة البث البريطانية، بي بي سي، نشر القصة نفسها، تحت عنوان «من داخل كفار عزة حيث قتل مسلحو حماس عائلات في منازلهم» والتي كتبها محرر الشؤون الدولية جيريمي بوين، وقد اعتمد المحرر الشهير المذكور أقوال دافيدي بن تسيون نفسه، الذي أضاف إلى مزاعم قطع رؤوس الأطفال والنساء في قصة «الدايلي تلغراف» أن وحدته المظلية استغرقت 12 ساعة للوصول إلى الموقع لكنها «أنقذت حياة العديد من الآباء والأطفال».

حسب قصة بوين فإن ضابطا آخر أراه جثة امرأة «قتلت وقطعت رأسها» ولكنه لم يطلب من الضابط تحريك الغطاء لتفقد جثتها. أي أن الصحافي الوحيد الذي كان في موقع الحدث وكان يمكن أن يؤكد أو ينفي مزاعم «قطع الرؤوس» لم يقم بذلك، وترك القضية برمتها مجالا للتهويل والتلفيق والتضليل والتحريض على الفلسطينيين، أو لعله لم يرغب في وضع مسؤولية حمل زعم كهذا على عاتقه.

القصص لم تخل من مفارقات تكشف تناقضاتها وتفضح سرديتها. صحيفة التابلويد «الدايلي ميل» فتحت باب المبالغات إلى أقصاها حيث كان عنوانها الرئيسي «هذا هولوكوست ببساطة» فيما كررت في العناوين الأصغر مزاعم «قطع الرؤوس» وإطلاق الرصاص على الأطفال. في لقاءات كاتبة المقال مع «ناجين» التقت امرأة تدعى افيتال اليخيم، التي شرحت لها كيف أن «أحد الإرهابيين سمح لها بالهرب» مع طفلي جيرانها!

مثال آخر يرد في كلام الضابط الإسرائيلي في قصة «التايمز» الذي يريد أن يصف الفظاعات التي قام بها مسلحو «حماس» فيقوم بتشبيهها بما حصل مع «أجدادنا في أوروبا». ما يجمع كل هذه التشبيهات التي تحاول أن تهوّل من عمليات حركة «حماس» وأن تصف عناصرها بالنازية، لا تفعل عمليا غير كشف التناقض الكبير الذي تمثله إسرائيل، والتي هي مشروع دعمه يهود أوروبا الغربية لتجميع يهود أوروبا الشرقية في «غيتو» كبير، ككفارة لقرون الاضطهاد الأوروبية، التي كان «الهولوكوست» النازي علامة كبرى فيها، لكن من يدفع الكفارة هم أصحاب الأرض الفلسطينيون!

في هذا التسرع الكبير للتهويل، يغيب أيضا وضع قطاع غزة الذي يحاصر فيه مليونا شخص لمدة 16 عاما ويقطع أحفاد الأوروبيين على سكان تلك الأرض الأصليين السبيل إلى أرضهم ووطنهم.