تتخوف السلطات الفرنسية من تداعيات حرب غزة على الداخل الفرنسي، حيث تعيش أكبر جاليتين عربية – إسلامية ويهودية في أوروبا، وذلك على غرار ما عرفته البلاد في مناسبات سابقة تشبه إلى حد ما الحرب الراهنة.

ولذا؛ تسعى السلطات الفرنسية لتدارك هذا الأمر. ومنذ صباح السبت الماضي ومباشرة بعد ذيوع خبر هجمات «حماس» على غلاف قطاع غزة، سارع الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيسة الحكومة إليزابيث بورن ووزيرا الداخلية والخارجية جيرالد درامانان وكاترين كولونا إلى التنديد بالأعمال «الإرهابية» التي ارتكبها مقاتلو «حماس» وتأكيد الدعم المطلق لإسرائيل وعلى «حقها المشروع» في الدفاع عن النفس.

ومنذ السبت الماضي، طلب ماكرون من درامانان تعزيز الحراسة حول المعابد والمدارس وأماكن تجمع اليهود، في حين منعت السلطات الأمنية والإدارية مظاهرات عدة، منها اثنتان كانتا مقررتين تضامناً مع غزة؛ وذلك بحجة «مخاطر الإخلال بالنظام العام».

في المقابل، شهدت باريس، الاثنين، مظاهرة كبرى دعا إليها المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا وشارك فيها الكثير من المسؤولين، بينهم رئيسة مجلس النواب.

ووفق وزارة الخارجية، فإن 12 فرنسياً قُتلوا في محيط غزة، بينما مصير 17 آخرين ما زال مجهولاً، ويظن أنهم من بين أسرى «حماس» أو «الجهاد الإسلامي». وكررت كولونا المطالبة بـ«الإفراج الفوري» عن الرهائن المحتجزين لدى المنظمتين الفلسطينيتين.

من جانبها، قالت رئيسة الحكومة إليزابيث بورن: إن فرنسا «لن تتسامح مع أي عمل أو تصريح معادٍ للسامية». ووجهت كلامها الثلاثاء إلى الجالية اليهودية قائلة: «نحن معكم. الهجوم عليكم هو هجوم على الجمهورية بكاملها».

يكمن التخوف الفرنسي من الأثر الذي يمكن أن تتركه أعداد القتلى الفلسطينيين ومشاهد الدمار المنهجي واسع النطاق الذي تتسبب به الضربات الإسرائيلية براً وجواً وبحراً في غزة، وما يمكن أن ينتج منه من تحركات وردود فعل في الضواحي والأحياء التي تعيش فيها جاليات عربية – مسلمة وازنة، والغضب الذي قد يتحول إلى أعمال عنف.

كذلك، فإن المواقف الرسمية الصادرة عن الحكومة والمزاج الفرنسي العام الداعم بصراحة إسرائيل وتحيز بعض وسائل الإعلام من شأنه أن يثير حنق هذه الجاليات وأطراف أخرى ترى أن باريس «تزن بميزانين وتكيل بمكيالين» في تناولها ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

وقال وزير الداخلية في حديث صباح الأربعاء لإذاعة «فرانس أنتير»: إن أجهزته أحصت تزايد الأعمال المعادية للسامية وطلب من القوى الأمنية التشدد في ملاحقة أي مرتكب لها.

وحض المحافظين على طرد كل أجنبي يقبض عليه متلبساً بهذا الجرم. وأفاد وزير الداخلية، بأن ما لا يقل عن 100 عمل معادٍ للسامية تم رصدها في الأيام الأخيرة وغالبيتها رسوم للصليب (النازي) المعقوف ورسوم معادية لليهود، فضلاً عن تهديدات لفظية وتم القبض على 24 شخصاً.

كذلك أفاد درامانان، بأن 10 آلاف رجل أمن طُلب منهم حماية 500 موقع يهودي على الأراضي الفرنسية.

 

أدبيات الموقف الفرنسي التقليدي

 

بيد أن الدولة الفرنسية لا تريد أن تكتفي بالمعالجة الأمنية وهمها المحافظة على السلم الأهلي والوحدة الوطنية.

من هنا، فإن الرئيس ماكرون دعا كبار المسؤولين في الحكومة ومجلسي النواب والشيوخ وقادة الأحزاب الممثلين في البرلمان إلى اجتماع موسع في قصر الإليزيه للتداول في تبعات حرب غزة على الداخل الفرنسي، والتوافق على أفضل السبل لإبقائها خارج الحدود، أو على الأقل للتخفيف من آثارها.

وبالتوازي مع الحراك الداخلي، تسعى الدبلوماسية الفرنسية لتوسيع دائرة اتصالاته أوروبياً وأميركياً، ولكن أيضاً مع قادة الشرق الأوسط للنظر في كيفية التعاطي مع الحرب الجديدة التي تبدو الأعنف والأكثر دموية في العقود الماضية.

 

 

رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومينيك دو فيلبان في صورة تعود لعام 2006 (أ.ف.ب)

 

 

أما على المستوى السياسي، فإن الجدل ما زال قائماً والهجمات السياسية والإعلامية متواصلة على حزب «فرنسا المتمردة»، وتحديداً على زعيمه المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون المتهم بالامتناع عن التنديد بهجمات «حماس» وبوصفها «عملاً إرهابياً».

وفي حين الاهتمام الإعلامي منصبّ على العمليات الحربية ومعرفة ما إذا كانت إسرائيل ستقتحم قطاع غزة براً، برز الحديث الصحافي لرئيس الحكومة ووزير الخارجية الأسبق دومينيك دو فيلبان، الذي جاء متميزاً بتركيزه على ضرورة العودة إلى أساسيات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

وأشار دو فيلبان إلى الخطأ الكبير الذي ارتكبته الأسرة الدولية التي تناست الملف الفلسطيني و«توهمت أنه سيمحى بفضل اتفاقيات اقتصادية واستراتيجية ودبلوماسية»، في إشارة إلى ما يسمى «اتفاقيات إبراهيم».

ونبّه دو فيلبان من ردة الفعل الإسرائيلية العمياء التي لا تميز بين ما هو عسكري وما هو مدني، عادّاً أنها ستقود إلى «اشتعال كل المنطقة».

وإذ أقرّ بحق الدفاع عن النفس لإسرائيل، إلا أنه حذّر من تحوله «عملية انتقام عمياء»، مضيفاً، السكان المدنيون كشعب «لا يعني أن عليهم أن يدفعوا ثمن جرائم ارتكبها أفراد»، وأن «محاربة (حماس) لا تعني حجز مليوني فلسطيني في قطاع غزة». وخلاصة رئيس الوزراء الأسبق، أنه «يتعين النظر اليوم بحل الدولتين (الفلسطينية والإسرائيلية) لأنه الوحيد الممكن».

ووفق التصور الفرنسي، فإن الحرب مرشحة لأن تطول. وإذا كان المزاج العام اليوم هو التضامن مع إسرائيل بسبب ما قام به مقاتلو «حماس» صبيحة السبت الماضي، فإن ذلك يمكن أن يتغير عندما تظهر على حقيقتها أعداد القتلى والدمار في غزة.

ولذا؛ ووفق ما نقلته صحيفة «لو موند» في عددها اليوم (الخميس) عن مصادر الإليزيه، فإن ماكرون «يبحث عن نقطة التوازن» قد تكون بالعودة إلى محددات الدبلوماسية الفرنسية الكلاسيكية والدعوة إلى قيام دولتين، وهي ترى في رفضه وقف المساعدات الفرنسية التنموية والإنسانية للفلسطينيين مؤشراً لهذه الرغبة.

وكان ماكرون قد أعلن، في مؤتمر صحافي مشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتس أول من أمس، أنه لا ينبغي الخلط «بين محاربة الإرهاب واحترام القانون الإنساني الأساسي».

؟

؟

؟

؟