من قلب مشاهد الزلزال الرهيب، فيما نتصفح الأخبار والفيديوهات، تقفز صورة رئيس دولة الإمارات إلى جانب رأس النظام السوري، مع كلام يبديه الأول للأخير بتأثر بالغ، يتعلق بالتضامن والوقوف وخالص التعازي بسقوط مئات الضحايا، بحسب خبر وكالة أنباء النظام السوري. ما أغرب هذا الخبر في خضم الأخبار! أين نصنفه؟ في باب المنوعات؟ الفكاهة؟ الكوميديا السوداء؟ أم العبث؟! أول ما يخطر في البال؛ وما دخل بشار الأسد حتى يتلقى التعازي والتضامن وعروض الإغاثة! هل تفرق معه مئات الضحايا، فيما قتل من شعبه نصف مليون، أو يزيد؟!

أما ثاني ما يخطر في البال؛ فذكرياتنا عن قصف النظام العشوائي الرهيب بالسكود وبالبراميل المتفجرة على بنايات السكان المدنيين، وكيف كنا نقول حينذاك: يا إلهي! كما لو أن زلزالاً ضربها. فيما تقفز صور تلك البنايات المقصوفة اليوم إلى الأذهان من جديد، نستعيد حمص، في مشاهد مصورة بطائرات مسيرة، الغوطة الشرقية، إدلب، ومختلف المدن والبلدات السورية، والمشاهد متوفرة بكثرة على يوتيوب؟  نستعيدها فيما نشاهد مذعورين آثار الزلزال الكارثية، ولا يخفى أن أكثر الأماكن تضرراً في الجانب السوري تلك التي يسميها النظام وبوّاقوه حواضن إرهابية: اُنظر، كما لو أنها مقصوفة من نظام بشار الأسد وحليفه الروسي.
لسنا في صدد قياس أي الحالين أقسى وأكثر تنكيلاً ورعباً، إنما فقط لو ترحمنا نشرات الأخبار من صور الشامتين والضباع المتحفزين.

هاني شاهين

ليست مقابلة صحافية عادية، تلك التي شاهدناها مع الفنان السوري الثمانيني هاني شاهين (العريف نوري في باب الحارة)، إنها أقرب إلى عيادة مريض، أو سجين، أو لعلها نافذة على أحوال المواطن السوري. مهنياً، لا تفي بأي حال المعايير المهنية، فمعظمها سؤال عن الصحة، وما الذي يتوقعه المرء من ثمانيني، غير آلام الديسك، ومشاكل في السمع، ونقص في التروية، وأوجاع في القلب، السكر، الضغط، زيادة في الشحوم الثلاثية، وكل ذلك بإمكانه أن يملأ نصف حلقة تلفزيونية هي أقل من ساعة (51 دقيقة). أما النصف الآخر فسيكون عن أحوال العيش؛ كيف في إمكان المرء أن يتدبر أمره مع راتب تقاعدي لن يسمح له برؤية اللحم في أطباق الطعام، بل لن يسمح له برؤية أطباق الطعام نفسها، متذكراً كيف ظل عشرين يوماً على وجبة مكررة صباح مساء، هي الزيت (الأبيض) والزعتر. أما الفاكهة، فانسَ، لم يرها الرجل عاماً بحاله. كمقابلة مع فنان ليست شيئاً البتة، لكنها، مع ذلك، استطاعت أن تكون شهادة موثقة عن «يوميات الحزن العادي» لمواطن سوري عبر العشرية الرهيبة، من دون أن يعبر حقاً بؤسها. أسهب شاهين في الحديث عن أوجاعه.
والناس، حتى من دون كوارث، تَسْتَطْيِب التفصيل في أمراضها، ثم انثنى لوصف حال العيش مع إهمال مهني، حيث لم يعد يطلبه أحد منذ حوالى خمس سنوات لعمل تلفزيوني. بعدها سيطمئننا عن أحوال الأولاد، فهذه (ابنته)، وعائلتها، «راح بيتها في المخيم (اليرموك) وتسكن الآن خلف (مشفى) الرازي، في ما يشبه مستودعاً، وتلك (ابنته الثانية) راح بيتها في المعضمية، والآخر (ابنه) راح بيته في حرستا، والحمدلله على كل حال. في اليوم التالي سيظهر شاهين في فيديو جديد معتذراً وموضحاً لنقابة الفنانين، لئلا يفهم أنه، لا سمح الله، يلومها على أي تقصير. في اليوم الثالث سيظهر الرجل في موقع تصوير مسلسل تلفزيوني جديد اسمه «كانون» ، عرض عليه إثر المقابلة، تعاطفاً، على ما يبدو. طاقم المسلسل كان جاهزاً لتصوير «عملية الإنقاذ» ، وبثها على مختلف مواقع التواصل.

أما الدور الذي سيؤديه شاهين في «كانون»، فهو «شخصية سالم بيك المنصور، وهو أحد أهم رجال الأعمال في الشرق الأوسط» . كما لو أنه دور مصمم للسخرية من الممثل، هو الذي لا يلوي على وجبة زيت وزعتر، على أصولها، سيجد نفسه أكبر رجل أعمال. المهم أن الرجل استأنف العمل بالفعل، قصوا له شعره، على الهواء، وحفّوا شاربيه، وانخرط على الفور في الدور.
ولم ينس أن يظهر في مقابلة جديدة يعلن فيها ندمه عن مقابلته المدوية، فهو لم يقصد أن يطلب شيئاً من أحد. إنه مواطن نموذجي حقاً، ستمر عليه سنوات الحرب كلها، بتفاصيلها المريرة، يجوع، يمرض، يبكي من أجل أولاده، ويغص. سيجتاز معها الثمانين من العمر، ومع ذلك سيظل جاهزاً ليتواطأ مع ظلم السنين ضد نفسه، سيعتذر، حتى لو لم يكن في العمر كثير من الأيام، يعتذر لأن هنالك دائماً ما هو أسوأ.

دولة المؤسسات

كل مواقع الإعلام الرسمي والبديل في العالم تناقلت فيديوهات الزلزال في تركيا وسوريا، وهي متوفرة بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً تلك المصورة في الشمال السوري، ولعلها الأكثر إرعاباً، فقد اجتمع الاكتظاظ والفقر وقلة الحيلة، مع غياب بنى تحتية، ومعدات تساهم في سرعة الإنقاذ والإسعاف في مشاهد أكثر مأساوية، مشاهد لا يمكن تجاهلها، إلا إعلام النظام السوري حيث تجد أنه اكتفى بفيديوهات من جبلة، واللاذقية، وحي الكلاسة في حلب. أي أن إدلب، ومختلف الأماكن الواقعة تحت سيطرة المعارضة لا تعنيه.
تأكيد جديد على أن النظام لا يريد، ولو على سبيل التمثيل أو الادعاء، أخذ دور دولة المؤسسات، التي عليها أن تقوم بواجبها حتى تجاه «العاقّين» من أبنائها. ألا يتعلم النظام من «الأعداء»، عندما يفصلون بين السياسة والكوارث الطبيعية، هذه التي لا ترحم عدواً ولا صديقاً!