يحكى أن عباس بن فرناس كان رجلاً ذا أخلاق حميدة وسمعة حسنة، ويعدّ من أكابر العلماء في عصـره، ولكنه كان كأي مخلوق بشـري من لحم ودم يخضع أحياناً لنزوة من النزوات الطائشة.
وفي يوم من أيام الربيع، كان عباس بن فرناس جالساً في بستان أخضر، يحدق إلى ما حوله ببهجة، فشاهد عصافير تطير من مكان إلى مكان، فحسدها، واستولت عليه نزوة حمقاء، ورغب في أن يطير كما تطير العصافير، ولكنه كان يعلم أن تحقيق أمنيته ليس بالأمر السهل، فظل طوال أشهر يفكر ويعمل ويجرب حتى تمكن أخيراً من صنع جناحين كأجنحة الطيور، ويختلفان عنها في الحجم اختلافاً يكمن سببه في الفرق بين وزن جسم الإنسان وجسم الطير.
وذات صباح، ثبّت عباس بن فرناس الجناحين على ذراعيه، ووقف على سور قلعة عالية، ورمى جسده في الفضاء، وحرك ذراعيه، فإذا هو ينجح في الطيران، وتغمره نشوة لم يعرف مثلها أي إنسان.
واستمر عباس بن فرناس يطير من بلد إلى بلد محملقاً إلى أسفل، فرأى شعوباً تتقاتل، ورأى دماء تراق كأنها المياه الوسخة، ورأى أطفالاً تهلكهم الأمراض بلا أي طبيب أو دواء، ورأى سجوناً ومشانق ومحاكم قضاتها من القتلة، ورأى رجالاً أحراراً يرحبون بالقيود التي تنقذهم من الجوع، ورأى الأخ يقتل أخاه ويسير في جنازته غير نادم، ورأى اللصوص مكرمين والشرفاء منبوذين محتقرين، ورأى الخيانات تعامل بوصفها أحداثاً تاريخية، ورأى الصفقات التجارية تنجز باسم المبادىء، فانتحب دونما خجل، وامتلأت عيناه بالدموع بينما كان يطير بسرعة وبكل ما يملك من قوة، فلم يتنبه إلى جبل شاهق ينتصب أمامه، واصطدم به صدمة عنيفة، فتمزق جسده، ومات.


( من كتاب “نداء نوح” 1994 )