البحث عن تعريف
تُطلق تسمية شهيدة أو شهيد على كلّ من يموتون خلال أعمال قتالية، سواء انتموا للمتحاربين أو للمدنيين. لكنّ هذا الاسم الذي يأتي في البداية بوصفه نوعًا من العدالة الساعية لإنصاف من قدّموا حياتهم، أو من خسروها، في سبيل الحرية من الاستعمار أو الاستبداد؛ يتحوّل إلى ظلم مرتين، في الأولى حين يأتي ويلتصق بالمحاربين فقط، وفي الثانية، وبعد مرور قليل من الوقت، حين يختص بالقادة ممن التصق بهم أول مرة، متجاهلًا أمر أولئك الجنود القادمين من مناطق الفقر والإهمال النائية، ليذهبوا إلى الموت والنسيان السريعين، في مقابل تكريم القادة الذين يبدون مع الزمن، ومع نسج الأساطير حولهم، وكأنهم خاضوا الحرب منفردين، وانتصر كلٌّ منهم بمفرده على جيوش الأعداء.
هذا التمييز الذي يسير متدرّجًا، بادئًا بالفصل بين المحاربين والمدنيين، أي بين الأبطال والعاديين، يمنح الموت تراتبية هي أشدّ ما يحاربه، فما نعرفه أنه إن كان هناك شيء مفهوم من لغز الموت فليس سوى قبوره العادلة في مساواتها بين الفقير والغني، والعظيم والحقير.
بالتأكيد لا شأن للبطل بصورته، لا يفكر بها وهو يسعى إلى النصر، أو إيمانًا بالمبادئ التي يحملها، أو تسجيل موقف تاريخي، مثل يوسف العظمة، وزير الحربية السوري في الحكومة العربية الأولى، الذي واجه الجيش الفرنسي القادم من الحدود اللبنانية لاحتلال بلاده مواجهةً غير متكافئة، ولطالما قيل وكُتب إنه فعل ذلك لمجرد ألا يقال إن الغزاة دخلوا بلاده من دون مقاومة تُذكر.
يمكن النظر بالمثل أيضًا إلى تجربة عبد القادر الحسيني، قائد جيش الجهاد المقدس في فلسطين، الذي استُشهد في قرية القسطل، قرب القدس، في معارك عام 1948، وبات استشهاده يُقرن بسقوط فلسطين نفسها وتغيّر تاريخ شعبها.
العظمة والحسيني بطلان من منطقة يكاد حديث البطولة والأبطال فيها لا ينتهي لكثرة حروبها ومآسيها. وعلى الرغم من أن خلود الشهداء الذي يطنبون في الحديث عنه شأنٌ جيليٌّ، أي أن استذكارهم وتقديرهم وذكر مآثرهم مرتبط بالجيل الذي عايشهم وعايش القضايا التي ضحّوا لأجلها، إلا أن العظمة والحسيني، في مثالنا، اخترقا جدار الأجيال وذهبا إلى ما وراءه، وظلّا حاضرِيَن رغم قرن كامل على استشهاد الأول، وقرابة ثلاثة أرباع القرن على استشهاد الثاني، وذلك ليس لأنهما استثناء إنساني، فقبلهما وبعدهما جاء الكثير من الأبطال، لكن لأنّ ما فعلاه جاء في لحظة تاريخية عصية على النسيان، وهي لحظة سقوط بلد في حالة سوريا، ونهاية الحياة التي عاشها البلد الآخر في حالة فلسطين.
من جانب شخصي، نشأتُ في مخيم فلسطيني نافست فيه صور الشهداء على الجدار سكّانَ المكان من حيث الحضور فيه. ملصقات قديمة لعمليات بطولية توضع فوقها ملصقات جديدة لعمليات بطولية أخرى. وعلى الرغم من أن ذلك الموت ظلّ يعرض بكثير من التباهي، لكنّ ذلك التبجح الحزبيّ المُوجّه كان يتبخر بمجرد مطالعة وجوه الشهداء الذي يحملون أسلحتهم الفردية، رافعين أيديهم بإشارات النصر الواثقة.
كانوا يشبهوننا كثيرًا. عيوننا التي تراهم تسرع في استحضار من يشبههم من أبناء حاراتنا، وتقيم مقارناتٍ ما بين الصور وشخوص الواقع.
إلى جوار ذلك، امتلأت الكتب المدرسية بالحديث عن الشهداء في دروس الدين والتاريخ، كما كانت بين نصوص دورس اللغة العربية قصائد كثيرة عن الشهداء. إضافة إلى أن الشهداء لهم حصة في كل المناسبات الوطنية، (وهذه أكبر من أن يتخيلها من لم يعش في سوريا)، دون أن ننسى أن هناك يومًا سنويًّا لهم. ولهذا اليوم قصة في كل بلد من البلدان.
؟
؟
بسبب ذلك راح الكثيرون منا، في المدرسة وخارجها، يجيبون “شهيد” عن السؤال الكلاسيكي “ماذا ستصبح في المستقبل؟”. لا نعرف شيئًا عن الموت، ما نعرفه هو أن صورنا يمكن أن توضع على الجدران وحولها هالات من الإجلال.
يُحاط الشهداء بألوان مختلفة من التبجيل، فهم الشجعان الذين لا يعرفون الخوف، وهم من صنعوا الحرية، أو مهّدوا لصنعها، وهم المتفانون إلى حدود ملائكية، الذين منحوا حياتهم لسعادة أبناء بلدهم. هكذا دومًا أول ما يفقده الشهيد هو كيانه الإنساني، إذ ما إن يموت حتى يموت معه فيتحول إلى كائن نوراني، جاء إلى العالم حاملًا رسالة سامية ومضى بعد أن بلّغها. ألا يقول القرآن: “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون”؟
نلاحظ أن الحقبة الكبرى لتقدير الشهداء هي حقبة التحرر الوطني، وغالبية من يموتون في هذه الفترة تعمل بلدانهم على الاحتفاء بهم كنوع من الاحتفاء بالاستقلال. وفي الثورة الفلسطينية المعاصرة التي طالت وامتدت إلى فترات طويلة، عرفت خلالها أشكالًا متعددة من النضال: الكفاح المسلح، والتظاهر وضرب الحجارة، والعمليات الاستشهادية.. خلال الاحتفاء بأحد الشهداء، خصوصًا في مرحلة الانتفاضة الثانية، تحولت المسألة الوطنية إلى مسألة حزبية، فبعد أن كان الشهداء يقضون نحبهم من أجل الوطن، صاروا يضحون بأنفسهم من أجل الحزب، والأصح طبعًا أن نرى إلى ذلك أن الحزب يُدخلهم هم ونضالهم في بورصة سياسية أو مزاد نضالي، إلى درجة أن هناك تعليقًا كثيرًا ما يردده النابهون الذين التقطوا تلاعب تلك الأحزاب بالتضحيات فيقولون: “لو عرف أن هذا ما سيحدث لما استشهد!”.
تحمل هذه الفكرة غضبًا كبيرًا على الواقع القائم الذي لم تستطع تضحيات الأبطال أن تحسنه، إلا أن الموضوع يتصل بقراءات أخرى، منها أنّ الشهيد مهما قال، ومهما قالوا عنه، من حيث إنه يموت من أجل المستقبل، وفي سبيل الأجيال القادمة، إنما هي أشياء بعيدة جدًا عما يريده.
الشهيد دومًا ابن “الآن”، ابن “آنه”، وهذه “الآن” هي الزمن الذي يضحي من أجله، ومن أجل هذا لو عاد ورأى أن ما فعله ذهب هباء لما ندم، ولن يشعر بالمرارة التي يشعر بها من يطلقون هذه العبارة. فعل ما فعله لأجل لحظته التي عاشها وحسب.
الشهادة رتبة
جرت العادة أن من يموتون في الحرب، من المحاربين أو المدنيين، ينالون لقب الشهداء، وبذلك يتوزعون بين قسمين: أبطال وضحايا. وفي حين يحظى الأبطال بمساحة من الاهتمام والتقدير يُنسى الضحايا كليًّا.
هذا طبعًا غير التركيز على قيمة الشهادة وإعطائها لمن لا يستحقونها، لمجرد أنهم أبناء رؤساء، وفي هذا كانت الفكرة بحد ذاتها، كما حدث لباسل الأسد مثلًا، تقول إن السلطة من تحدد أي موت هو المقدس، وأي موت هو العادي. فالسلطة نفسها جعلت مما حدث في حماة من ترويع عقابًا لكل سوريا، ولم تسمح بأي عملية إنصاف للضحايا مهما كانت. وهي من منحت في فترة الحرب التي تلت الثورة السورية اللقبَ لجنودها ومرتزقتها، ووصمت موتى شعبها بالإرهاب والخيانة.
حينما يموت الشهداء في الحروب ويحصلون على اللقب يفقدون الصفات الإنسانية، ويتحولون إلى كائنات متسامية. يحب الناس أن يضعوا الشهداء في رتبة القديسين، هذا إلى جانب أن كثيرًا من القديسين كانوا من الشهداء.
لا يبقى الشهداء ذواتًا بل رموزًا. لا يهمنا ماذا كانوا يحبون، ولا ماذا كانوا يكرهون. بالنسبة لنا هم قيمة بحد ذاتهم. تمتزج فيها القيم الدينية حول التضحية بالمعاني القومية التي تتصل بالحرية. ومع الوقت يكون الشهيد قابلًا للاستعمال في بعض الأحيان، كأنْ تدعي عدة فصائل انتسابه إليها.
لا يحصل العاديون على شرف الشهادة حتى لو أنهم ماتوا كذلك، لأن الشهيد الذي نعرفه لا يكون عاديًّا بموت تحت القصف، أو أقبية التعذيب، أو غرقًا في البحار. ولأنه يجب ألا يكون عاديًّا يمكن لمن يجيد صناعة قصة جيدة لمثل هذا النوع أن ينقله إلى النوع الآخر من الشهداء.
كأن اللقب مرتبة، جائزة يمنحها الأحياء للموتى، ويحجبونها عنهم لو أرادوا. تنتهي معركة الشهداء بالنصر حين يمنحون الاعتراف، والهزيمة، بالقياس على ذلك، هي ألا يحصلوا عليه، إذ يعدون أشخاصًا عاديين، سوف يطويهم النسيان.
صور الشهداء الأدبية
ألقاب كثيرة وصفات عديدة تسبغ عليهم، لكنّ القصيدة الأكثر دقةً في التعبير عنهم هي قصيدة إبراهيم طوقان، حين يصف الشهيد بأنه الصامت الحازم لأن الحزم لا يحتاج إلى كلام، وهو واقف قرب كل باب، وعلى الموت أن يخاف منه:
لا تسل عن سلامته
روحه فوق راحته
بدَّلَتْهُ همومُهُ كفنًا
من وسادِتهْ (الأعمال الشعرية، ص 197).
شهيد طوقان هو الصورة السائدة في وعينا العام، وهو ثابت لا يتغير أبدًا في غايته أو صفاته، وهذا عائد إلى انتمائه إلى لحظة التحرر الوطني ومقاومة المستعمرين، ولأنّ هذه الصورة شديدة الارتباط بتاريخ بلداننا لا بد للشهيد من أن يكون في صلبها، لأنها هو، ولأنها أساس حضوره.
استمرت فكرة الشهيد المقاوم والبطل المضحّي، واستمرت معها صورته كملثّم حامل للبندقية القديمة لمواجهة الغزاة وانتزاع الاستقلال.
هذه هي الصورة الموجزة لعموم شهداء البلدان العربية في حقب التحرر الوطني، وكما يمكن أن توجد في بلاد الشام أو العراق يمكن أن توجد في الديار المغربية، فشهيد طوقان في آخر الأمر هو من صار اختصارًا لأبطال هذه البلاد.
هذا عن الصورة. أما عن المضمون، فأفضل من يعبّر عن ذلك هو مونولوج لعلي صالح الشيخ يونس حول أخيه الشهيد حسن في مسلسل “التغريبة الفلسطينية”، حيث يقول: “حسن.. ذلك الشاب النبيل الذي قاسَمَني وقاسَمْتُهُ عُمرَ الطفولة وشراعَ السنديان. ذلك الطفل عرف كيف يحلّ لغز الأرض وطلاسم الماء. كنتُ أتعلم لغة الكتابة وقواعد النحو، حينما كان يتعلم لغة النهر والصخر والسنبلة. كنت أمتطي المعجم حين كان يمتطي الريح والعواصف. كنت أكتشف الأسئلة حين كان يعيش الأجوبة. كان يظن أني الجزء الذي لم يكنه، والآن أعرف أنه الجزء الذي لم أكنه. هناك.. في مكانٍ ما أجهله وتعرفه النجوم، يرقد أخي حسن، يلبس جلد الأرض التي أَحبها، ويستعير منها نبضه الجديد. أنا هنا أبحث عن الوطن الضائع في موّالِ شعريّ، وهو هناك يكتشف الأرض فيه. على عينيه ينمو عشبها وزعترها.. ومن جرحه تتفتّح شقائق النُعمان وعروق الشومر البري. هناك هو تكتبه الأرض، وتعيد كتابته في كل فصلٍ من فصولها. وأنا، أنا الذي سرقت منه الكتاب والمدرسة والمحبرة، أنا هنا أبحث عن الكلمة التي تصفه، أستعير جلده لأكتب عليه شعري فيه، ولأشعر ببعض الرضى، لعلّي أتابع حياتي من جديد. حسن.. أيها الشاب النبيل الذي ظلمناه، وأنصفته الأرض” .
الشهيد والأرض يمتزجان كيانيًّا، كأنه التجلي الآدمي لها. وحين يموت كل ما يحدث هو العودة إلى الأصل.
يقدّم غسان كنفاني تصوّرًا عميقًا للشهيد في قصة “قرار موجز”، حيث يترك كل ما يقال عنه جانبًا ليرى ما هي وجهة نظره هو نفسه؟ هل تتطور أفكاره؟ هل لديه وعي بما اختار؟ كيف ينظر إلى العالم؟
تحكي القصة عن الشاب عبد الجبار المولع بالفلسفة للتأكيد على أن الشهيد حامل وعي، ولديه موقف واضح من العالم، واختياره هذا الطريق الذي يؤدي إلى إنهاء حياته هو اختيار حرّ ليس فيه أي عبث، فعبد الجبّار يصل إلى حكمته النهائية قبل موته: “ليس المهم أن يموت أحدنا.. المهم أن تستمروا” (القميص المسروق، ص 58).
من الطبيعي أن نجد الشعر ممتلئًا بهذا الموضوع، لأن الشعر المشغول بالحياة سيظل يقف مندهشًّا أمام أولئك الذين “يصعدون إلى حتفهم باسمين”، بتعبير محمود درويش.
إضافةً إلى أن الشعر، خلال انخراطه في معمعان السياسة، يكاد لا يجد ما ينافس هذا الموضوع طهرانيةً وصفاءً، حيث المناضلون غارقون في صراعات رفاقية دموية، تصل أحيانًا إلى حدود الاغتيال، وفيهم من يعقد اتفاقيات سرية مع الأعداء. وحيث إن الحرب هي الحرب، أي نسخة متكررة عن نسخة متكررة سابقة، لا جديد فيها سوى ارتفاع منسوب التوحش، وتطور أدوات القتل. أما الدم والأشلاء والحطام وأفواج الهاربين فهي ذاتها دومًا متجددة، ومهما حدث القتل بأدوات مختلفة، بالرصاص رشًّا أو السكاكين طعنًا، فإنه يظل متشابهًا، بينما المختلف هو البشر الذين لا يموتون بالطريقة نفسها، لأنّ هناك قصة مختلفة ومنطقًا خاصًّا لكل إنسان.
؟
؟
لهذا نجد أن أجمل ما كتبه الشعراء عن الثورات والحروب كان عن الشهداء، لأنّ ما يجسّدونه هو ما تجسده الثورة في تصورها النبيل قبل أن تتلاعب بها الأهواء، أو تنحرف بمساراتها الضرورات، وذلك لأن الشهداء قادرون على تمثيل ذلك التسامي، بغض النظر عن ما في الشخصيات التي كانوها في حياتهم، لأنّ الموت يرفعهم فوق مستوى البشر المحكومين بالنقائص.
تخبرنا أشعار محمود درويش الكثير عن هذا الموضوع، كونه انشغل بالشهداء منذ بداياته، حيث كتب غاضبًا وساخطًا مرةً، ومتأملًا مرة أخرى. وقارب تجارب شهداء محددين مثل عز الدين القلق وماجد أبو شرار وسمير درويش، كما انشغل بالمجازر كتل الزعتر وصبر وشاتيلا، وعبّر عنها وعن سواها في قصائد عديدة.
منذ كتب:
“يحكون في بلادنا
يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
وعاد في كفن” (الأعمال الأولى 1، ص 26)
وحتى “محاولة رقم 7”:
” هذا هو العُرس الذي لا ينتهي
في ساحةٍ لا ينتهي
في ليلةٍ لا ينتهي
هذا هو العُرْس الفلسطينيُّ
لا يصل الحبيبُ إلى الحبيبْ
إلاّ شهيدًا أو شريدًا” (الأعمال الأولى 2، ص 157).
مرورًا بقصيدته “عندما يذهب الشهداء إلى النوم” في كتابه “ورد أقل”، التي يغدو فيها الشهداء هم الناجون، والواصلون إلى وطن مشتهى من سحابٍ وشجرٍ وسرابٍ وماء، ولهذا لا بد من حراستهم ممن يدعون حبهم لهم . إلى أن كتب في “حالة حصار” أشياء كثيرة عن الشهداء خلال الانتفاضة الثانية، أبرزها:
“الشهيد يحاصرني كلما عشت يومًا جديدًا
ويسألني: أين كنت؟
وأعد للقواميس كلّ الكلام الذي
كنت أهديتنيه،
وخفف عن النائمين طنين الصدى!
الشهيد يوضّح لي: لم أفتش وراء المدى
عن عذارى الخلود، فإني أحب الحياة
على الأرض، وبين الصنوبر والتين، لكنني
ما استطعت إليها سبيلا،
ففتشت عنها بآخر ما أملك:
الدم في جسد اللازورد
الشهيد يُعلّمني: لا جماليَّ خارج حريتي
الشهيد يُحذرني: لا تُصدّق زغاريدهنَّ
وصدّق أبي حين ينظر في صورتي باكيًا:
كيف بدَّلت أدوارنا، يا بنيّ،
وسرت أمامي؟
أنا أولًا
أنا أولًا!” (الأعمال الأولى 2، ص 157).
يؤكد درويش، في هذا المقطع، أن الشهيد يحب الحياة، وليس مشغولًا بالهذيان الديني كما يشاع عنه، وأنه لا يبتغي حياة غير الحياة التي عرفها على الأرض بين الناس، ولهذا ما من جمالية لغير حرية الإنسان في أن يعيش، وأفضل من يمكن أن يُعبّر عنه ليس الخطب، ولا زغاريد النساء وراء جنازته، بل والده الذي يبكي بسبب تغير منطق الحياة، فالذي يجب أن يموت هو الأب لا الابن.
ثمة تجليات أوسع مما اخترنا هنا للشهادة والشهداء في شعر درويش، لكنّ المسار العام لهذه الشخصية التراجيدية أخذ مداه في ديوان “حالة حصار”، لأنه يحتفي بموت العاديين، ويكتب يومياتهم.
من الشّرف الرفيع إلى الموت المجانيّ
تُحطم الحروب أفكارنا عن الموت والبطولة، فالحروب النظامية تؤكد أن السفالات التي ترتكبها جيوش الأعداء في بلادنا لها مواز منطقي هو سفالات جيوشنا في بلاد الأعداء.
وفي الحروب الأهلية، نرى كيف يتحوّل أبطالنا إلى مجرمين، فالضابط الذي سبق وخاض حروبًا مشرفةً ها هو يوجّه المدفعية نحو من كان يحميهم، ويرتكب المجازر، ولا يبالي بأنه لا يترك وراءه سوى العار.
يُجمل إسماعيل ناشف الشهداء، خلال بحثه في صور الموت الفلسطيني، في ثلاثة أشكال: الضحية والشهيد والاستشهادي (صور موت الفلسطيني، ص 53).
ويرى أن هذه الشخصيات تمثّل مراحل تاريخية من القضية الفلسطينية، فالضحية نتاج مرحلة النكبة، والشهيد نتاج مرحلة الكفاح المسلح، والاستشهادي نتاج مرحلة ما بعد اتفاقية أوسلو.
وبالنسبة لناشف فالشهيد يمثل انتزاع الضحية لسيادتها على موتها ، بينما الاستشهادي هو الرجوع إلى الجسد الفردي ضد الغياب الذي حدث له تحت نظام السلطة الفلسطينية .
تنطبق ثلاثية ناشف “ضحية، شهيد، استشهادي” على الواقع العربي أيضًا، مع تمايز في الترتيب، فالسرديات الوطنية الحديثة بدأت في الدول العربية مع الشهداء الأبطال الذين يتطابقون مع الشهيد الذي صوّره إبراهيم طوقان، سالفة الذكر. ومع توالي الحروب العربية، التي وصلت ذروتها في مرحلة ما بعد الربيع العربي، تحول المواطنون إلى ضحايا مميزون بالانتهاك وحسب. وبين المرحلتين، أو بعدهما أحيانًا، ظهرت شخصية الاستشهادي، لا سيما في مرحلة ما بعد سقوط العراق، خصوصًا في الحرب الأهلية الطاحنة عام 2005 – 2006.
يخبرنا كتاب “العراق في زمن الحرب” أنّ مجلس قيادة الثورة في عراق صدام حسين سنّ سلسلة من القوانين عام 1980، في إطار الحرب مع إيران، من أجل إعادة تشكيل حقوق الجنود والشهداء، عبر ترقيتهم ومنحهم امتيازات كانت تقتصر سابقًا على أعضاء حزب البعث (ص 261).
تعاملت مع الأمر في ذلك الوقت مؤسستان: وزارة الدفاع وحزب البعث. الوزارة عرّفت الشهداء بأنهم الجنود النظاميون الذين لقوا حتفهم في القتال، ولهذا عوّضت عائلاتهم، وفقًا لرتبهم العسكرية، مع تقديم بعض المكتسبات الأخرى كالخدمات الصحية. في حين اعتبر الحزب أن كل من يموتون في الحرب من البعثيين، عسكريين كانوا أم مدنيين، هم شهداء. ويتعهد البعث بحماية أسرهم، وضمان صعودهم في مراتب الحزب ومؤسسات الدولة .
اتُخذت تلك الإجراءات من أجل التأكيد على البطولة في الحرب مع إيران، أو “قادسية صدام” بحسب الخطاب الرسمي آنذاك. لكنّ اجتياح الكويت لاحقًا، والانتفاضة في الجنوب ضد النظام، ومن ثم الحرب الدولية على العراق؛ حطّمت المعنى الكلاسيكي للبطولة فالبلد مهزوم حرفيًّا، والانتفاضة تقول إن السلطة البعثية باتت مرفوضة. هكذا وجد النظام العراقي ضالته في قصف ملجأ العامرية، فتحوّل من حديثه عن “الشهداء الأبطال” و”حرّاس البوابات الشرقية”، إلى الحديث عن الضحايا بلغة حقوقية من أجل كسب تعاطف دولي.
ومع كل المجهولية التي تخيّم على الضحايا، فإنه يحدث أحيانًا أن تحدث مصادفة تنقل الضحية إلى مستوى الشهيد، مثلما حدث للطفل الفلسطيني محمد الدرة الذي قُتل أمام الكاميرا، وصار اسمه علامة على مرحلة تاريخية، ولولا تلك المصادفة لظل ضحية مجهولة كالآلاف غيرها. والأمر نفسه ينطبق على ضحايا آخرين ترفعهم الكاميرات إلى مستوى الشهداء مثل الطفل السوري حمزة الخطيب.
الموت مرتين أو أكثر
تقوم إسرائيل باعتقال جثامين الشهداء الفلسطينيين الذين يقاومونها في عمليات عسكرية أو في اشتباكات، كي تحرمهم من أن يحظوا بأي تكريم.
تشير سهاد ظاهر ناشف إلى اشتراط إسرائيل على عائلات الشهداء الفلسطينيين التي ترغب باستعادة جثامين أبنائها أن تتعهد بعدم تشريح الجثة، وأن يكون وقت الاستلام ليلًا، مع ضمان عدد محدود من المشيعين، وهذا ما يدفع العائلات إلى رفض هذه الشروط، كون إسرائيل تسعى إلى فرض طقوس جديدة للموت، وكأنها تريد استعمار العاطفة الفلسطينية، عبر نقل الشهداء من مركز الحياة إلى هامشها، على نقيض ما اعتاده المجتمع الفلسطيني.
ضمن هذا المسار، حدثت قصة الشهيد مجدي خنفر الذي قتل جنديًّا إسرائيليًّا عام 2002، وظل جثمانه في حفرة عليها رقم مدة 12 عامًا، ضمن مدافن رملية لا يزيد عمق القبر الواحد منها عن 50 سم، وتكون القبور فيها متراصة على خط واحد، وتحفظ الجثث بأكياس بلاستيكية يُكتب عليها بأقلام الفلوماستر رقم الشهيد واسمه، ما يجعل الأسماء عرضة للزوال بفعل العوامل الطبيعية.
وهنا تعلق ظاهر ناشف بالقول: “أُعيد إحياء استشهاده وموته مرة أخرى ليُدفن كشهيد في مقبرة مع شاهد عليه اسمه. انتقل خنفر من رقم إلى اسم، من شيء إلى ذات، من نكرة إلى بطل، من فلسطيني لا يستحق الحزن على موته، إلى فلسطيني شهيد يحزن عليه شعب؛ تغيرت مواقعه السياسية والاجتماعية بتغيّر الأرض التي تحتضن جثمانه وبتغير دافنيه، وكلاءِ موته”.
تعلّمنا هذه القصة الفارقة أنه حين تُسرق الأسماء من أصحابها، وحين تُلغى الأجساد ككلٍّ يترابط به الكيان الإنساني؛ تسهل عملية إنهاء القصة التي يحملها هذا الاسم الذي يعنون هذا الجسد. بالتالي حين تُستعاد الجثامين مع أسمائها فإن إصحابها يستعيدون موتهم المستحق. كأن الإنسان يموت حقًّا كما يجب، بعد أن عُلّق في محاولة الإماتة، في منطقة رمادية بين الحياة والموت، دون الانتماء إلى أي منهما.
باستعادة الجثمان والاسم والجسد (أو ما تبقى منه) والقبر والجنازة يستعيد الفلسطيني المستَعمَر كرامته وكرامة موته. ويبقى المؤلم أن تلك الاستعادة لا تحدث مباشرة، بل تحتاج إلى دورة طويلة من الإماتة حتى يصل الجسد إلى موته الذي يصله البشر عادةً بلمح البصر.
؟
؟
يقودنا هذا إلى صور قيصر إلى تحولّت إلى مرافعة حاسمة في الظلم الذي رزح تحته السوريون، وفي الوقت نفسه كانت المادة الأكثر قوة من حيث قدرتها على تثبيت صور ضحايا كانوا سيظلون أسرى للغياب والإنكار وضياع الحقائق.
مع هذه الصور الكابوسية لم يعد ممكنًا أن نتحدث عن شهداء، فهذه أجساد مهانة ومستباحة، وقدرها أن تؤرشف لغرض الجريمة الروتيني الذي تقوم به أجهزة النظام، هذا طبعًا إلى جانب أن الأجهزة الأمنية السورية امتلكت شعورًا بالحصانة المطلقة، جعلها غير قادرة على تخيّل أنها يمكن أن تحاسب في يوم من الأيام (عملية قيصر في قلب آلة الموت السورية، ص 108).
يسأل قيصر نفسه: “لماذا تُصوّر تلك الأجساد المعذبة حتى الموت كلها؟”. ولا يجد إجابة، ويظن أن النظام وحده من يعرف السبب، لكن بالنسبة له هناك هاجس واحد: “عندما كنت أشاهد الصور، كانت تحدثني. كان كثير من الضحايا في الصور يعلمون أنهم سيموتون، كانت سباباتهم مرفوعة كما لو كانوا سيموتون ناطقين الشهادة. كانت أفواههم مفتوحة من الألم، وبإمكاننا أن نشعر بالذل الذي تحملوه. كانت وجوههم تحفر في ذاكرتي في كل مرة كنت أشاهدها. كانوا يصرخون ألمهم كي ننقذهم ولكن أحدًا لم يفعل، ولم يصغ إليهم أحد، كانوا يطلبون أشياء ولكن لم يسمعهم أحد” .
لكن نشر الصور، وأثره الصاعق، أخبرنا بما رغب أولئك المتألمون بقوله، وسمعناه على نطاق واسع: تروي أجسادنا المتراصة، بهزالها وشحوبها، وبأثر المرض والجوع والقيود، قصة الهمجية في سجن عملاق اسمه سوريا؛ نحن تعبير عن بلد يموت، وسيظل يموت، ما لم تأت العدالة. كل جسد خسر حياته بطريقة مروّعة، طويلة ومديدة، في إعدام جماعي، فلا تجعلونا نخسر فوق ما خسرناه، الحق بالعدالة!
هل تلاشى الشهداء؟
منذ صار عالمنا العربي مفتوحًا على صراعات حادة بين جماعات مختلفة الولاء، لم يعد ممكنًا الاتفاق على ما هو الشهيد، لأنّ بطل هذه الجهة خائن عند الأخرى. وفي الوقت نفسه كثر الضحايا المدنيون، وكثر الاختلاف عليهم، وعلى السلاح الذي يقتلهم؛ منذ ذلك الحين والحديث عن الشهداء يبدو انفصالًا عن الواقع.
في المتاحف والنصب التذكارية، كما في كتب التاريخ، عادة ما نجد مقاتلين معروفين في بلدهم. وهناك أيضًا نصب الجندي المجهول الذي يهدف إلى تكريم الجنود الذين ماتوا في الحرب ولم يجرِ التعرف عليهم بالاسم.
الجندي المجهول رمز للوحدة الوطنية والفخر، يُحيي ذكرى التضحيات ويُشجع على الوحدة والتضامن. يستخدم الجيش هذا المفهوم للتعبير عن “الروح العسكرية”، لأنّ الجنود غالبًا ما يكونون أبطالًا مجهولين ضحوا من أجل أمن وحرية أمتهم، وأن موتهم لم يذهب عبثًا أو يُنسى. تُستخدم فكرة الجندي المجهول أيضًا أبعد من ذلك بأن تكون رمزًا للرغبة في السلام، إذ يأمل الكثير من الناس أن تساعد مثل هذه الآثار في منع تكرار الأحداث الفظيعة التي وقعت في الماضي.
لكن ماذا عن الضحايا المدنيين؟ من يتذكرهم؟ هناك بعض النصب التذكارية للمدنيين، لكن هذه تطورات حديثة، جاءت بمثابة استجابة لما كان مفقودًا في السابق.
إعطاء أسماء للقتلى أمر بالغ الأهمية، فذلك يقول إنهم أشخاص، لهم علاقات تربطهم بالآخرين. تذكّر أسماء من ماتوا يساعد في الحفاظ على ذاكرتهم والتعرف على وجودهم، وحفظ ذكرهم بما يتجاوز غيابهم الجسدي.
باتت عبارة “الخسائر في صفوف المدنيين” مهينة. لأنها تقلّل من أهمية الحياة المدنية وتزيد من أهمية القتلى المنتمين إلى الجيش. ويمكن أيضًا فهم حركة إعطاء المدنيين المتوفين اسمًا ومكانًا للذكرى على أنها حركة مضادة لذلك.
إن الفكرة التقليدية القائلة بأن الحرب تنطوي على قتال عسكري فقط أصبحت الآن موضع تحدٍّ. وهذا يوسع التعريف ليشمل الآثار الأوسع للحرب، بما في ذلك المجاعة والمرض والنزوح والانهيار الاجتماعي. ويساعد هذا المنظور الموسع الناس على رؤية العواقب الكاملة للنزاعات المسلحة.
؟؟
؟
؟
؟