مازال الظفر بجائزة الأوسكار حلماً يراود صناع السينما العربية منذ أكثر من نصف قرن، تكرّرت خلاله محاولات الوقوف على منصّتها أملاً في الحصول عليها. ورغم وصول بعض المخرجين إلى التصفيات النهائية للمسابقة إلا أن الأفلام العربية لم تبلغ عتبة الفوز بها لعدة اعتبارات، حصرها بعض النقاد السينمائيين في ضعف أو بالأحرى غياب التوزيع السينمائي العربي في أمريكا، فضلاً عن النقائص التقنية والفنية والمالية التي تجعل هذه الأفلام غير قادرة على نيلها.
فيلم “الرجل الذي باع ظهره” الأقرب لنيل الجائزة
وغادرت ثمانية أفلام عربية رشحت لتمثيل دولها في المسابقة لهذه السنة منذ التصفيات الأولية، ليكون بذلك فيلم “الرجل الذي باع ظهره” للمخرجة التونسية، كوثر بن هنية، الفيلم العربي الوحيد الذي يشارك في القائمة القصيرة الأولية عن فئة أفضل فيلم أجنبي، وسط توقعات بأنه قد يكسر القطيعة بين السينما العربية وجائزة الأوسكار.
وانتزعت المخرجة التونسية، كوثر بن هنية، عبر فيلمها “الرجل الذي باع ظهره” مكانا بين 15 فيلماً اختارتها أكاديمية فنون وعلوم السينما الأمريكية، للمنافسة على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية. خطوة مهمة بالنسبة لمخرجة تسعى لتقديم أعمال غير مكرّرة ومنفتحة على قضايا عالمية، بدل الاكتفاء بقضايا بلدها تونس. ولهذا تطرّقت خلال هذا العمل لمسألة اللجوء، باعتبارها القضية الأهم خلال السنوات الأخيرة، وهو أيضاً خامس فيلم طويل في مسيرة بن هنية، كتابة وإخراجاً.
وتدور أحداث فيلم “الرجل الذي باع ظهره” حول قصة سام، الشاب السوري الفار، بسبب الحرب في بلاده، إلى لبنان دون إقامة رسمية. في الأثناء يحاول سام في الحصول على تأشيرة سفر لأوروبا للحاق بحبيبته، ولأجل هذا الهدف يحاول دخول حفلات افتتاح المعارض الفنية ببيروت، حيث يقابل الفنان الأمريكي المعاصر الشهير جيفري جودفروي، الذي يوفر له تأشيرة إلى بلجيكا ولكن مقابل أن يكون ظهره محملاً لعمل فني معاصر يطرح قضية الهجرة واللجوء. يسعد سام بالفكرة في البداية لعائدها المادي والتغييرات الجديدة في حياته، ولكنه تدريجياً يكتشف أنه فقد حريته وغيّب ذاته، وبات سجين ظهره المتنقل بين المتاحف.
واستوحت بن هنية فيلمها من أعمال الفنان البلجيكي المعاصر ويم ديلفوي، الذي رسم وشماً على ظهر رجل وعرض العمل للبيع. ويقوم السوري يحيى مهايني، الفرنسية ديا أليان، البلجيكي كوين دي باو والإيطالية مونيكا بيلوتشي بأدوار البطولة، إلى جانب الفنانة اللبنانية السورية دارينا الجندي، والتونسيين نجوى زهير وبلال سليم.
وحاز الفيلم على جائزة أفضل فيلم روائي عربي خلال عام 2020 في مهرجان الجونة في مصر، كما شارك في مهرجانات سينمائية دولية عديدة، من بينها مهرجان البندقية في إيطاليا. استطاع فيلم “الرجل الذي باع ظهره” أن يصل للتصفيات النهائية والقائمة النهائية للأفلام المشاركة في جوائز “غولدن غلوب”.
ويرجح بعض النقاد ألا يغادر الفيلم من الباب الصغير لهذه المسابقة، كما حدث دائماً مع الأفلام العربية، على غرار الناقد السينمائي السوري المقيم في الجزائر، محمد عبيدي، الذي يتوقع أن يبتسم الحظ لبن هنية، لأنها تطرقت لملف اللجوء بطريقة مختلفة.
ويقول عبيدي لرصيف22: “لقد تم طرح موضوع اللجوء في أعمال سابقة، بعضها رشح للأوسكار، لكن بن هنية تناولته من زاوية أخرى بفيلم ‘الرجل الذي باع ظهره، The man who sold his skin’ ليكون الفيلم العربي الوحيد الذي يشارك في فئة أفضل فيلم أجنبي. وربما سيحالفها الحظ هذه المرة لعدّة اعتبارات، أهمها تعالي الأصوات في الأوسكار ضد التهميش الطويل وغياب الأقليات والنساء والسينمات العربية، الإفريقية والأمريكية اللاتينية، عن جوائز الأوسكار، فضلاً عن التفاتة ورغبة مهرجانات السينما العالمية في حضور الألم السوري المسرود بصرياً عبر الأفلام”.
أما الناقد السينمائي التونسي، خميس الخياطي، فيرى أن العمل مهم ويستحق أن ينال الجائزة، لأنه من جهة يتطرّق لقضية غير متأصلة في تونس أو العالم العربي بل تؤرق كل العالم، وثانياً لعامل التوزيع في الولايات المتحدة.
ويقول الخياطي لرصيف22: “بن هنية خرجت من جلباب الواقع التونسي وتوجهت للعمل على ملفات ومواضيع تؤرق كل دول العالم على حد سواء، فاللجوء لم يعد يعني الدول الطاردة لأبنائها بسبب ظروف مختلفة كالحرب، بل أصبحت تقضّ مضاجع الدول المستقبلة التي لم تعد تريد لعب دور الحاضن لهؤلاء، وبناء عليه ظهرت أشكال الاستغلال التي نجحت المخرجة في تصويرها بطريقة ذكية تجمع بين متناقضين، الفن والهجرة. كما أن اختيار الممثلين والمزج بين عدة شركات إنتاج في عمل واحد، ووجود موزّع للفيلم بأمريكا، تجعل من الفيلم مؤهلاً للفوز بهذه الجائزة التي ظلت بعيدة عن الأفلام العربية”.
ويتنافس الفيلم التونسي في القائمة المختصرة مع أفلام من إيران، فرنسا، رومانيا، النرويج، تايوان، هونغ كونغ، روسيا وساحل العاج، تشيلي، المكسيك، جواتيمالا، التشيك والبوسنة.
أسباب مختلفة
وغادرت المنافسة ثمانية أفلام عربية رشحتها بلدانها للمنافسة على وهي المصري “لما بنتولد” للمخرج تامر عزت، علماً أن منتج الفيلم، معتز عبد الوهاب، يمكث في السجن حالياً، منذ مايو/أيار الماضي، بتهمة تتعلق بالانتماء إلى جماعات إرهابية، وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. ومن السودان فيلم “ستموت في العشرين” للمخرج أمجد أبو العلا، والفيلم الجزائري “هليوبوليس” للمخرج جعفر قاسم، وعن الأردن فيلم “200 متر” للمخرج الفلسطيني أمين نايفة.
ومثل لبنان الفيلم اللبناني “مفاتيح مكسرة” للمخرج جيمي كيروز، ومن فلسطين تم ترشيح فيلم “غزة مونامور” إخراج الأخوين ناصر، وعن المغرب شارك في المنافسة فيلم “معجزة القديس المجهول” للمخرج علاء الدين الجم، ومن السعودية فيلم “سيدة البحر” للمخرجة شهد أمين.
وربما يجد المتابعون للشأن السينمائي هذا الحضور الكبير للسينما العربية، وإن في القائمة الأولية لمسابقة الأوسكار، أمراً هاماً باعتبارها خطوة تدل على رغبة صناع الأفلام في المنطقة وجديتهم في الظفر بهذه الجائزة العنيدة، والانخراط أكثر فأكثر بالسينما العالمية، عبر اقتحام كبريات مهرجاناتها ومزاحمة كبار مخرجيها على أهم الجوائز.
لكن رغم رجاحة هذا التفكير إلا أن زمناً يزيد عن الـ62 من المشاركات في مسابقة الأوسكار، والوصول حتى لقوائمها النهائية دون بلوغ عتبة الفوز، يثير بقوة السؤال: لماذا لم تنجح السينما العربية في الفوز بالأوسكار؟ ما هي النقائص أو ما الخلل المتواصل الذي يجعل بلوغ هذا الجائزة حلماً، رغم مرور أكثر من نصف قرن على بداية المشاركات الرسمية للسينما العربية بها؟
الناقد السوري محمد عبيد يرى أنه في السنوات الأخيرة تغير التعاطي العربي مع مهرجانات السينما العالمية، وأصبح هناك بحث حقيقي عن التتويج على خلاف ما كان في السنوات الماضية.
ويقول لرصيف22: “لم يكن العرب في الماضي يهتمون كثيراً بالمشاركة أو بترشيح أفلامهم لجائزة أحسن فيلم أجنبي ضمن جوائز مسابقة الأوسكار، قدر اهتمامهم بالتعاطي الصحفي والإعلامي مع الحدث. كما لم يكن السينمائيون العرب يفكرون في تقديم أفلام ضمن الشروط ‘الأوسكارية’ من حيث الموضوعات وطريقة التناول. ولكن مع مرور الوقت تغير الاهتمام، وبدأنا نلمس ترشيحات لأفلام لمخرجين عرب من لبنان، فلسطين، الجزائر، الأردن، موريتانيا وتونس.
فمثلاً بأوسكار 2019 وصل المخرج السوري طلال ديركي، بفيلمه ‘عن الآباء والأبناء’ إلى قائمة الترشيحات القصيرة لأفضل فيلم وثائقي طويل، كما ترشح ‘كفرناحوم’ الذي حصد جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان ‘كان’ السينمائي العام الماضي، وهما يلامسان الأزمة السورية وانعكاساتها الإنسانية. وهذه السنة وصلت المخرجة التونسية للقائمة القصيرة عن فئة أفضل فيلم أجنبي، وسط توقعات بأن تنجح في الفوز.
وهذه خطوات مهمة بالنسبة للسينما العربية في مسارها بهذه المسابقة، ولكن تبقى هناك بعض العوامل الأخرى، المتعلقة أساساً بمعايير المسابقة المرتبطة بالمشاهد الأمريكي والصورة السينمائية الهوليودية التي لم تصلها بعد السينما العربية، ما قد يجعل حلم الفوز بالأوسكار يتأخر”.
ويذكر أن مصر كانت أول البلدان العربية التي انطلقت في ترشيح أفلامها لجائزة الأوسكار منذ سنة 1958، عندما اختارت فلم “باب الحديد” للمخرج يوسف شاهين، وبطولة فريد شوقي. وظل سجل السينما العربية في الأوسكار مصرياً حتى سنة 1970، عندما قدمت الجزائر فيلمها الأول “Z” للمخرج اليوناني الفرنسي كوستا غافراس، والذي تدور أحداثه حول عملية اغتيال سياسي يوناني ديمقراطي، وحضرت الجزائر في هذا العمل على مستوى التمويل فقط. ورغم أنه العمل الوحيد الفائز في الأوسكار بتمويل عربي، إلا أنه لا يعتبر عملاً جزائرياً. ومنذ ذلك الحين دأبت السينما العربية على تسجيل ترشيحات لأفلامها في الأوسكار ولكن دون أن تصل للتتويج.
الناقد السينمائي التونسي خميس الخياطي، يرى أن عامل غياب التوزيع السينمائي العربي في أمريكا هو أحد أبرز عوامل فشل الأفلام العربية في الفوز بالأوسكار، إلى جانب عدم توفّر ثقافة سينمائية مكتملة الملامح داخل كل الدول العربية، ووجود سينمات عربية غير منفتحة على بعضها البعض، حتى تلك التي تشترك في نفس الوسط الجغرافي، كمنطقة المغرب العربي مثلاً.
ويقول الخياطي لرصيف22: “لنتفق في البداية على أن جوائز الأوسكار هي نتاج رؤية المشاهد الأمريكي، لكن يجب الإقرار بأن السبب الرئيسي لتخلف السينما العربية عن الفوز بالأوسكار هو ارتهانها وتركيزها على التوزيع المحلي، وعدم انفتاحها بالشكل المطلوب على التوزيع العالمي. ذلك أن وقوف أي فيلم عربي على منصة التتويج في الأوسكار يحتاج لتوفير موزعين كبار، يقومون بالترويج وتوزيع الأفلام العربية في أمريكا وإدخالها لقاعات السينما هناك، وهذا غائب عن السينما العربية”.
ويضيف: “من جهة أخرى، لا يمكنني القول إن هناك شيء اسمه سينما عربية. هناك سينمات غير منفتحة على بعضها، وغير قادرة على الترويج فيما بينها، حتى ولو على شاشات التلفاز. مغاربياً مثلاً، لا نجد فيلماً عن إحدى هذه الدول يروّج أو يوزّع أو يبثّ تلفزيونياً لدى دولة مغاربية أخرى.
وبالتالي ليس بوسعنا الحديث عن الأوسكار والظفر بها، بينما نحن فاشلون حتى في تسويق أعمالنا فيما بيننا. هذا فضلاً عن غياب ثقافة سينمائية واضحة، تنظم القطاع وتطوره وتنشره. وهنا ربما أقف عند تفصيل هام: في تونس، تراجع عدد قاعات السينما فيها من قرابة 100 قاعة في مرحلة ما بعد الاستقلال، إلى حوالي 20 قاعة حالياً. وأخيراً، يجب ألا نتجاهل الفوارق التقنية والفنية وحتى المالية بين الأعمال التي تقدمها الدول العربية، والتي تقدمها دول أخرى، استطاعت افتكاك الجائزة لمرّات”.
وهناك عوامل أخرى جعلت بعض الدول تتخلف عن المشاركة في هذه المسابقات الكبرى وحرمتها من فرصة التجربة مبكراً، وهي العوامل السياسية التي حرمت بلداً مثل العراق من دخول المسابقة، إلا بعد الاحتلال الأميركي، وكذلك غابت سوريا التي كانت في عداء دائم مع أميركا، ولكن بات حضورها هاماً بعد 2011، حين تحرّر بعض مخرجيها من قيد السياسة، الذي تم بمغادرتهم بلدهم وإقامتهم في دول أخرى أغلبها أوروبية.