بعد سنوات قليلة من إطلاق النسخة الأولى من أوبريت “الحلم العربي”، تجرأتُ على القول إنَّ مَن لم يبكِ حينذاك، عند سماعه، بل وخصوصاً عند مشاهدة الفيديو، سيكون بلا قلب، ومن لم يسخر منه في اليوم التالي (لنقل في السنوات التالية) سيكون قليل عقل.

ما كان بالإمكان أن ننخدع بحلقة جديدة من أوبريت “الحلم العربي” أُطلقتْ أخيراً، فهذه المرة يقول الواقعُ أشياء أكثر فداحة من أيّ وقت مضى، تدحض “الحلم العربي”، بل وفكرة العروبة من أساسها.

 

النسخة الجديدة نفسها، في الفيديو المتوفر على يوتيوب، ستأخذك إلى الشريط الأول في العام 1996، ستنطلق منه، وكان بإمكان الصنّاع الجدد أن يلاحظوا صعوبة الوصول إلى جماليات النسخة البِكر، من أين يأتون بذكرى، المغنية التونسية الراحلة ذات الصوت الفريد (في قلبي شقّ يأسى على واحدة من أجمل الأصوات)، المغنية أحلام بنسختها الأجمل من نفسها (حاضرة في الكليب الجديد بشفاه منفوخة، وصوت أقل)، وكذلك أصالة بنسخة طفلة وأكثر عذوبة، حميد الشاعري، لطفي بوشناق.

لكن، على ما يبدو، ما أرادته النسخة الجديدة التخلص من بعض “مثالب” الفيديو القديم، التي لم تعد صالحة للزمان الإبراهيمي (نسبة لاتفاقيات أبراهام المطبّعة). خلفية ذلك الفيديو (المُشاهَد ملايين المرات على يوتيوب) كانت أحداثاً عربية تاريخية بارزة؛ فمن النكبة، إلى حرب تشرين 1973، إلى صبرا وشاتيلا، إلى جمال عبد الناصر، ودائماً الجماهير الثائرة السائرة في عصر الجماهير.
وبغض النظر عن الموقف من كل تلك الأحداث، فالمهم أن الأوبريت تَعاملَ معها كجزء من ذاكرة الأمة المشتركة ومحركاتها.

أوبريت اليوم مخصصٌ لانتزاع كل ذلك، وصولاً حتى لانتزاع الكوفية الفلسطينية التي تظهر هنا وهناك. المغني محمد عساف نفسه، فتى غزة، والمقيم الذهبي في الإمارات، ظهر من دون أي إشارة على غزيّته، لا عَلم، ولا كوفية “يعلّيها ويلولِح فيها”، على ما دعا في أغنيته الشهيرة.

لكن ليس أوبريت “الحلم العربي” وحده الهزيل والمنزوع الدسم، المحزن أن كلماته الحالمة الطرية، الدافئة والرومانسية، تأتي في أسوأ مناخ عربي ممكن. لقد تمكّنوا تماماً من إطفاء أي أمل بـ “الربيع العربي”، بل جعلوه فرصتهم للتمكّن والتغلغل في مختلف الأمصار العربية.

بلاد عظيمة أصبحت تحت رحمة استثماراتهم واستخباراتهم وميليشياتهم.

لعلهم أرادوا حلماً عربياً بالإكراه، على غرار ما فعل عبد الناصر نفسه، على نحو أكثر خبثاً. وبعد الربيع، جاءت حرب غزة، التي قد تكون المأساة الأكثر فظاعة في تاريخ العرب، ومع ذلك أين هم الحالمون العرب، أين الملايين التي طالَ ما غنّت “وين الملايين”، و”الحلم العربي”، و”فلسطين داري ودرب انتصاري”، فها نحن نرى اليوم تظاهرات في كل أرجاء الأرض نصرة لفلسطين وغزة، ومطالبة فقط لوقف إطلاق النار، فأين هم العرب؟!

أين الحشود الغاضبة؟ وهل هناك مَن أحرق نفسه، على غرار طيار حربي أمريكي ارتدى بدلته العسكرية، وأحرق أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن صارخاً “الحرية لفلسطين”؟!

 

يأتي “الحلم العربي” في خضم أسوأ حرب، وأفظع إبادة جماعية، من دون أي تلميح لها. وعلى ما يبدو أن لا هذه النسخة من الأوبريت، ولا الأولى في الأساس، جاءت لتحلم حلماً عربياً يمثّل فعلاً أجيالاً تلو أجيال، فقد انطلقت النسخة الأولى لتمهّد لتجارة عابرة للأقطار العربية، كانت بداية الفضائيات العربية وانتعاشتها، وكان سوقها وجمهورها مختلف الناطقين بالعربية، وكانت لغة العروبة و”بلاد العرب أوطاني” ملائمة تماماً.

وعلى أي حال، لا تولد الأغاني فوق، بمرسوم ملكي أو جمهوري أو أميري، هذه ستكون، مهما ادعت الرومانسية، أقرب إلى مارش عسكري وقرع طبول يرمي إلى حشر الجماهير العريضة في نفس الحظيرة. الأغاني، والشعر، كما الأحلام، تولد في الرؤوس والقلوب المنفردة، هامسة، وحيدة، أو حتى صاخبة، ذئبية، موجوعة، ثم تنتقل من بيت لبيت، من شارع لشارع، وأحياناً من سجن إلى سجن، اُنظر ما مصير الأغنيات التي ولدت في السنوات الأخيرة في مصر المقهورة، ولعلكم تتذكرون مجموعة كانت تتنقّل، تغني وتتهكم في شوارع مصر؛ كان مصيرها السجن.

انظر مغنّي غزة الأكثر أصالة، وقد غنوا على عربات تجرها الحمير، وللأطفال في مراكز الإيواء، وفي الخيام. هذه المرة اقتصرت الحلقة الجديدة من مسلسل “الحلم العربي” على حذف مغنّين، وخلفيات واسعة للجماهير ورموزها، في المرة المقبلة، من يدري، قد تحذف كلمة “العربي” من العنوان، وقد يضاف مغنٍ معتمراً كيباه.

 

 

 

 

* كاتب من أسرة تحرير “القدس العربي”