؟

؟

؟

 

خالد التركاوي – مصدر

 

 

عندما كنت صغيراً لطالما رافقت والدتي إلى سوق المسقوف لتجميع مكونات الزعتر التي نشتريها من عدة محال تجارية، ثم نطحنها عند أحد المحال قرب جامع القاسمي المعروف في المنطقة، وكنت قبلها أظن أن زعتر الإفطار بنوعيه الأخضر والأحمر يأتي من نبته الزعتر التي يتم طحنها لتصبح بهذه النكهة ويضاف لها السمسم، ولكنني رحت أكتشف مكونات أخرى مثل السماق والحمص وبذر الرمان، والفستق الحلبي، والكمون، والكزبرة، وعدد من أنواع البذور المعروفة كبذر القرع وبذر البطيخ، والشمرة، وغيرها، وكل هذا يحمص ثم يطحن ثم تضاف له مكونات أخرى مثل السمسم وفوق هذا يأكل مع زيت زيتون أصلي. هذا الأمر قد لا ينطبق على الزعتر بالخلطة السورية، ولكن تجد كثير من مكونات الإفطار والعشاء التي يصعب تفكيك مكوناتها من قبل الأشخاص العاديين، وهذا ينحسب بالتأكيد على الوجبات الرئيسية والثانوية وأطباق الحلويات.

؟

؟

في الحقيقة قد لا يختلف اثنان على تنوع المطبخ السوري، الذي تتنوع أطباقه لتشمل قائمة واسعة من الأكلات النباتية واللحوم، وما يجمع بينهما. تنوع يأتي من بعد تاريخي وأخر جغرافي، ويتوقع أن أطباق مثل المجدرة والشيش برك (أذنين الشايب) والعجة؛ تعود تاريخياً لأكثر من 2000 سنة.

 

في الشرق والجنوب من سورية يعد القمح والحبوب متوفراً بشكل كبير، وفي الوسط تجد خضروات متنوعة، وفي شمال البلاد نجد أن بعض الفواكه دخلت بقوة على الأطعمة المطهية مثل الكرز والسفرجل، كما أن اللحوم اللذيذة المنتشرة في البلاد ساهمت بتطور أطباق متنوعة كأكلة الشاكرية وأكلات الكبب والمحاشي.

البعض يقول إن سورية تحتوي على مطبخين رئيسيين؛ هما الشامي والحلبي، وبينهما مطابخ غير مكتملة الأركان، ولكنها تحمل ثراء وتعديلات مهمة في إطار تنوع المطبخ السوري. وليس الطبق الرئيسي فحسب ما هو متنوع، بل كذلك أطباق المقبلات والحلويات التي يصعب حصرها.

إذاً نحن أمام مطبخ مكتمل الأركان، متنوع تنوعاً يصله إلى حد الغنى الذي يتفوق فيه على مطابخ المنطقة وبعض المطابخ العالمية. وبناءً على هذا التنوع، وهذه اللذة والميزة الثقافية العميقة والجغرافية الواسعة؛ راح بعض السوريين لنقل المطعم السوري إلى الدول التي انتقلوا إليها، وقد لاقى المطبخ نجاحاً في بعض هذه الدول، خاصة العربية منها كما هو الحال في مصر على سبيل المثال، ولكنه بقي يعاني في الدول الغربية، فرغم انتشاره بقوة في ألمانيا ودخوله إلى دول مثل لوكسمبورغ وبلجيكا ،فرنسا وسويسرا وغيرها من الدول التي يعد مواطنوها منفتحين ثقافياً ومتقبلين لحضارات الشرق، إلا أن زبائن المطبخ السوري لا تزال تقتصر بالمجمل على الزبون العربي وربما السوري بشكل محدد.

يَعرف أصحاب المطاعم السورية في الدول الغربية هذه المشكلة بشكل أكثر قرباً، فهم يعانون منها يومياً، فالزبون السوري وإن كان هو الزبون الأول لهذه المطاعم إلا أنه يفتقر لمشكلة القوة الشرائية من جهة والعدد من جهة أخرى، فالسوريين محدودي الأعداد في النهاية، فرغم تخطيهم المليون في بلد مثل ألمانيا، إلا أنه لا يشكل سوى بضعة ملايين في سوق الأطعمة الذي يبلغ حجمه 95 مليار يورو، والحالة الألمانية قد تكون هي الأفضل مقارنة بحالة المطبخ السوري في فرنسا أو سويسرا والسويد وغيرها.

لكن ما الذي يجعل المطبخ السوري المتجسد في شكله التجاري الحالي –المطاعم السورية- ضعيفة التنافسية رغم غنى القائمة، وتنوع المكونات، وعراقة الطعم؟

؟

؟

في الحقيقة، الجواب يكمن في التنوع والغنى ذاته، فالمطبخ السوري يحمل مكونات متنوعة قادمة من ثقافة عمرها آلاف السنين، فلو أخذنا طعام مثل المحشي أو الكبة، لوجدنا أن كل منهما صنف وليس طبق، على سبيل المثال: المحاشي فهي تمتد على أكثر من عشرة أنواع رئيسية مع مكونات متنوعة، كذلك الكبب ربما تصل إلى أكثر من عشرين نوعاً. ولعل ما يخطر في بالي وأنا أكتب هذه الكلمات، هو كيف استطاع السوريون إضافة كل هذه التعديلات على خضار بسيط مثل الكوسا، لحفره ونزع لبه، ثم حشوه بالأرز واللحم، وطبخه تارة بالبندورة وتارة أخرى بمرق حامض، ومرة باللبن، ومرة تحويله لشيخ المحشي أو كوسا بلبن، وتارة وهو طازج وأخرى وهو يابس، مع إضافات أخرى كالعظام تحت المحشي أو اللحم أو اللية، والذي يجعلك في حالة ذهول هو كل التعديلات التي طرأت على أطباق أخرى مثل الكبب.

حتى الأكلات الأكثر بساطة مثل “الحراء أصبعه” تجد فيه تنوع بين الحامض والمالح والحلو، وهناك في المطبخ الحلبي أطعمة تجمع في نفس الوقت بين ما هو حامض وما هو مالح وما هو حلو. وعلى الرغم من أن أهل القرى السورية يميلون لتبسيط الأطعمة أكثر من أهل المدينة، إلا أن مقارنتها بأصناف أخرى خارج المطبخ السوري تبقيها معقدة نسبياً. كذلك فإن تقديم الطبق ذاته يحتوي على تفصيلات معقدة، مثلاً الشاكرية تأكل مع الأرز أو البرغل، وأحياناً أطباق أخرى بسيطة كمقبلات مثل البصل الأخضر أو الفجل، ولو ذهبت تجاه المقالي لوجدت أطباق فرعية ومشتقات كثيرة.

إذاً؛ نحن أمام تحدي التبسيط، والجواب على سؤال هل نستطيع تبسيط هذه الأطباق لجعلها أكثر قدرة على الفهم ومعرفة المكونات، على غرار الشاورما، أو البيتزا، أو المناقيش، أو أي أكلات معروفة وسهلة الفهم، الجواب هو ما سيقدم أحد الحلول لانتشار المطبخ السوري.

التحدي الثاني؛ هو التقييس، أو آلية تقديم الطبق، فلو افترضنا أننا نستطيع أن نبسط أكلة مثل المحاشي، فما هي وحدة قياس هذا الطبق؟ هل هي الحبة التي سيختلف حجمها بحسب الموسم، أم هو الطبق الذي يمكن أن يختلف حجمه بحسب الصحن، وما هو وضع المرق واللحم المرافق لها في هذه الحالة، وهل الوزن سيكون بالتالي المعيار؟ كذلك فإن أكلة مثل الملوخية أو البامية حقيقة يصعب تنميطها وجعلها قابلة للقياس فلو قارنها بالمعكرونة مثلاً فإن التفاصيل داخل البامية أو الملوخية متنوعة، وهل ملوخية الدجاج، أم اللحم هي المقياس، أم بامية الزيت أو اللحم، وما هو الطبق الجانبي بهذه الحالة؟
هذه نقطة أيضاً تحتاج إلى حل، ولا أقصد الحل هنا على مستوى مطعم واحد، بل تقديم حل يجعل من الطبق منتشراً ومطلوباً في المطاعم السورية، فطالب البيتزا أو الفلافل مثلاً يعرف مقدماً أنه سيتناول سندويتش بحجم معين، وشكل ومكونات محددة.

التحدي الثالث؛ هو المكونات ذاتها، فعند الحديث عن الجغرافية السورية، نجد أن السوريين اعتادوا على زيت عفرين ولحم العواس، وبندورة بلدية قادمة من حوران، وباذنجان محدد الأنواع لكل نوع من أنواع الأكل، كما أن الفاصولياء والبامية والكوسا لها مواصفات محددة من حيث الشكل والحجم، ولو أخذنا سوق مثل السوق التركي، نجد أن الكزبرة مثلاً غير معروفة فيه، كما أن حجم الكوسا كبير جداً، وكذلك في معظم دول أوربا، دعنا نفكر بمكونات المكدوس مثلاً فهل نستطيع أن نجد الباذنجان البلدي بقياس مناسب، أو الجوز البلدي أو الزيت أو الفليفلة الحمراء بذات المواصفات ليستخرج معك ذات الطعم.

التحدي الرابع؛ السفرة، كثير من الأطباق السورية مرتبطة بمفهوم السفرة، أو تأكل بشكل متجاور، خاصة أطعمة العشاء، فلا أذكر أنني أكلت حراق أصبعه بدون أطعمة جانبية متعددة، وكذلك لو ذهبنا للوجبات البسيطة على الغداء كالمجدرة مثلاً فهي تقدم مع سلطة أو لبن، ولن تستطيع هضمها بشكل منفرد. بمعنى أخر الطعام السوري مبني على مبدأ التشاركية، لذا فإن تنوع الأطباق في السفرة ذاتها يجعل الجميع يتذوق ما يريد من هذه الأطعمة، وليس بأن يأخذ كل فرد وجبته الخاصة، وفي حال تم تفكيك مكونات السفرة فقد تفقد كثير من الأطعمة السورية نكهتها ولذتها، مما يجعل الأمر تحدي أخر.

إذاً، الثوابت التي أمامنا؛ هي مطبخ سوري متنوع، عميق، بذوق عالي، يمتد من أطعمة الإفطار لأطعمة العشاء، ويتوسع في المقدمة نحو أطباق المقبلات، وفي الخاتمة نحو حلويات مرتبطة بكل المناسبات تقريباً، ولكننا على جانب أخر أمام تحديات واسعة لترويج المطبخ السوري في دول العالم، وهذه التحديات ليست تحديات بسيطة، بل هي ذات أبعاد مختلفة، تحتاج لتضافر وتأسيس هيئة ربما لرعاية المطبخ السوري والتغلب على المشكلات، وكذلك الحفاظ عليه وضمان تحويله إلى صناعة تدر الملايين وليس المئات أو الآلاف التي يتم التركيز عليها في الوقت الحالي.