خرافات محمد صبحي! … راشد عيسى

 

 

 

 

تحار حقاً في تفسير محمد صبحي، الذي لم يعد الممثل والفنان المصري الكوميدي وحسب، بل الظاهرة الذي يجمع في شخصه كلّ الخرافات، التي لا تخطر لعاقل، وإنْ وردتْ بالفعل عند أحد، بسبب هذا العارض الصحي أو ذاك، فقد تأتي فرادى، يصعب أن تجدها كلها مجتمعة في شخص.

تصريحات صبحي ليست جديدة تماماً، لكنه يجملها الآن في مقابلة جديدة، جاءت بمناسبة مسرحية يقوم بتحضيرها بعنوان “فارس يكشف المستور”.

 

هذا الإيمان وحده (بتسطيح الأرض) يمكن أن يبرهن لك أن اعتقاداً ضالاً بأبسط الأشياء سيجرّ معه حتماً عالماً كاملاً من الأضاليل

 

ليست هذه هي المرة الأولى التي يقول فيها أحدٌ إن الأرض مسطحة لا كروية، أساساً هي ظلّت كروية بما يكفي لمئات الآلاف من السنين، قبل أن يُعتَمَد النموذج الجديد، وتوضع على أساسه تطبيقات علمية وحياتية راسخة لا حصر لها.
تحار، فتسأل وتفكر في المصادر التي ينهل منها الرجل، أين درس، من هم أساتذته، ماذا يقرأ، هل يسافر، هل يستخدم الـ “جي بي إس”، كيف يتعامل مع العلماء والأكاديميين والطلاب في بلده؟ بل كيف ربّى أبناءه قبل ذلك؟
وفي الواقع؛ فإن هذا الإيمان وحده (بتسطيح الأرض) يمكن أن يبرهن لك أن اعتقاداً ضالاً بأبسط الأشياء سيجرّ معه حتماً عالماً كاملاً من الأضاليل.

وإذا نظرت إلى باقي عقائد الفنان صبحي ستستنتج أن كروية الأرض ما هي إلا جزء من مؤامرة كونية، تنضم إلى عناصر أخرى تجتمع كلها بيد حكومة صهيونية. هذه التي تحاول اختصار المليارات الثمانية من سكان الأرض إلى مليار ذهبي واحد تحكمه الصهيونية، والباقي على الإعدام. كيف؟ بالكوفيد، وفيروسات أخرى (حسب صبحي؛ الآن هناك فيروس قادم من جنوب أفريقيا)، التشجيع على المثلية الجنسية (وهذه متوفرة بكثرة في الأعمال الفنية على ما يقول)، وهناك أيضاً توحيد الديانات واكتفاؤها بالوقوف عند النبي إبراهيم. وهنا، على ما يبدو، تفسير الفنان الخاص لماذا سُميت اتفاقيات التطبيع الإسرائيلية- العربية في السنوات الأخيرة بـ “اتفاقيات أبراهام”.

هنالك أيضاً، حسب صبحي، التلاعب بالمناخ، وهذا بالطبع بيد الولايات المتحدة، التي تبثّ الروح في بركانٍ هنا، وتسونامي هناك، بزلزال هنا، وإعصار هناك، بجفافٍ هنا، ومطر غزيز هناك. ويحذّر الفنان المصري من أن الأشهر المقبلة تنطوي على خطر مناخي من الصنف المصنوع نفسه على ما يبدو، من دون أن يقول لنا لماذا وكيف، وما طبيعته.
وهنا يستشهد الفنان بـ “نيكولا تسلا، العالم العظيم اللي عمل فوق ألف اختراع، وكتب في مذكراته أن هناك اختراعات عملها أخفاها عن الأمريكان لأنها ضد البشرية، فيطلع قائد القوات الجوية الأمريكية عام 2022، في “سي أن أن” ليقول إن أمريكا استطاعت أن تحقق المغناطيسية (مشروع تسلا) وتستطيع تغيير المناخ في أي بقعة من العالم”.

 

وعلى أي حال؛ ما الذي سنفعله، كعرب، إزاء كل هذه الأخطار، فنحن نعيش في عين عصر التفاهة، ولا يبدو أننا نستأهل أكثر من تسونامي التفاهة، إذ يقول برنار لويس، حسب صبحي طبعاً، “العرب مش محتاجين رصاصة، ولا نجيّش جيوشنا، إحنا ندخّل العرب عصر التفاهة، فتتحلّل المجتمعات وتتقسم. عامل خريطة بالألوان، وقد اعتمدت من الكونغرس العام 1983، كوندوليزا رايس وبريجنسكي..”.

وتدخل “تكنولوجيا التواصل الاجتماعي والفيسبوك” في إطار الصناعة التي “اخترعها الغرب لِهدمِكَ، لهدم الأسرة، والمُعلّم”. هنا يتحّسر صبحي على الزمن الجميل: “في زماننا كان هناك فقط برنامج “نور على نور” ومتولي الشعراوي”.

يحنّ الرجل إلى زمن أقل ضجيجاً، بصوت واحد، لا بعدد من الأصوات. إنه يفسّر السبب في دمار مصر في نهاية عهد حسني مبارك، عندما فتح الإعلام لكل من هبّ ودبّ، وكان المقصود منه عملاً استخباراتياً، عشان يعرفوا مين اللي بيتكلم عشان يتمسك”. (هذا يذكّر بفيلسوف عربي جهبذ، لا بدّ أنه متأثر بمحمد صبحي فهو لا يكفّ عن ترداد هذه النظرية).

لا رغبة لدى “الفارس” بالحوار، وهو لم يتردد في القول لشيخ الأزهر “لا للحوار الديني”، فهو لا يريدها “مَكْلَمَة” (من الكلام)، هذا يقول كذا، وذاك يقول كذا، فصبحي لا يخفي الديكتاتور الذي فيه، في رأسه ديكتاتور هائل يفخر به، ويجاهر.
قوى الشر تحكم العالم، لكن ليس في مصر، ولا تدري لماذا يستثنيها الفنان، وكيف نجت، ولماذا هي على هذا الحال الأكثر بؤساً من بين جهات الأرض، ما دامت قوى الشر لم تتمكن منها، مع أنه لا يعفيها من الانتقاد عندما يتطرق إلى التفاصيل، لكن لربما كان الأمر اكتساباً لمرضاة السلطات، وتعرف أن الفنان تحت أجنحتها عندما يستشهد بكلام “الريّس”: “اللي عنده وعي، وفاهم، بيتعذّب”.

 

 

عندما يسأله المذيع إن كان “بيتعذب” سيجيب فوراً: “أنا معذّب جداً، لأنني فاهم”.
هنا بالذات يوجعك قلبك على محمد صبحي، تقول كيف يحتمل من يعرف كل هذه الحقائق المرعبة، خلافاً لثمانية مليارات نسمة، الاستمرار بالعيش! فما يقوله صحيح على الأقل بالنسبة إليه، ولا بدّ أنه يرى بوضوح ساطع ضلال المليارات من البشر.

هي حقائق صحيحة للغاية بالنسبة له، ومرعب إن كان يستطيع الفنان إقناع أحد آخر بها، خصوصاً أنه يستخدم الأسماء والمراجع والتواريخ والأرقام، وغالباً لن يخطر ببال أحد أن يذهب للبحث إن كان برنار لويس قال ما جاء على لسان صبحي (ما دام بإمكان لويس أن يقول كلاماً أسوأ)، وكم كان عمر كوندوليزا رايس، وماذا كانت تعمل في العام 1983، ماذا يفيد كل ذلك ما دام بإمكان الفنان المصري أن يكذّب حقائق علمية شديدة الرسوخ ليست بحاجة لأي براهين إضافية.
لكن من قال إنّ الحال ليس مرعباً فعلاً؟ وإن عدداً كبيراً من الناس لا يحملون مثل هذه القناعات بالجملة أو بالمفرّق، والتي ينتج عنها في النهاية ما نصادفه كلّ يوم من وحشية في الأفعال كما في الكلام؟!

يخشى فقط، فيما يستمع المرء إلى كل تلك الضجة الضحلة من الأفكار، على اسم فلسطين وقضيتها على لسان الفنان، يخشى أن يصبح إيمانه بها، وانتصاره لحقها، شكلاً من أشكال الخرافات.

 

 

* كاتب من أسرة “القدس العربي”

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى