“صار قول الحقيقة خطيراً”: القمع ضد السوريين في لبنان يطال المدافعين عنهم

 

 

 

 

 

تتكدس الكتب في كل زاوية من زوايا مكتب معتصم خلف المنزلي، الواقع في بيروت، حيث يمضي وقته بالكتابة، بينما تُزين صورة الروائي الفلسطيني غسان كنفاني أحد جدرانه، وبجوارها إعلان عن معرض دمشق الدولي لعام 1954، الذي كان يعقد قبل سنوات من تولي حافظ الأسد حكم سوريا ومن بعده ابنه بشار.

 

وعلى الجدران الأخرى، توجد خرائط قديمة، بطاقات بريدية، وصور عائلية، توثق لحظات من حياته في سوريا وتركيا ولبنان.

 

“هذا ما أملكه”، قال خلف، 31 عاماً، وهو يشير إلى غرفته، وتابع: “هذه مساحتي داخل هذه المدينة المرعبة أحياناً”.

 

خلف واحد من الصحفيين والمناصرين السوريين واللبنانيين القلائل، الذين يلقون الضوء على الانتهاكات الممارسة بحق اللاجئين السوريين. ومع تنامي مظاهر العنف ضد السوريين في لبنان، وبالتزامن مع تصعيد الحكومة من إجراءاتها القمعية، تتناقص أعدادهم، وتمرّ أعمالهم تحت عدسة الرقابة.

 

“يجب أن نقول الحقيقة، وأن نمنح المجموعات المهمشة  كالسوريين صوتاً” بحسب خلف، لكن “صار قول الحقيقة خطيراً، وهم يحاولون جعله أكثر صعوبة”.

 

في 14 حزيران/ يونيو، حذرت منظمة “مراسلون بلا حدود” (RSF)، منظمة دولية غير ربحية تناصر الصحفيين، من أن إعادة دفء العلاقات بين دمشق وجيرانها يجعل الصحفيين السوريين المقيمين في لبنان والأردن والعراق وتركيا أكثر عرضة لخطر الإعادة القسرية إلى سوريا، “حيث السجن مصيرهم وفي بعض الحالات القتل”.

 

وأشارت المنظمة مع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، إلى أن هذه الدول تتبع عدة إجراءات لتسويغ ترحيل اللاجئين السوريين -غالباً تحت ذريعة “العودة الطوعية”- ولم تتخذ أي خطوات لحماية الصحفيين أو منع ترحيلهم، ولاسيما أولئك الذين لديهم مذكرات اعتقال صادرة ضدهم في سوريا.

 

معتصم خلف أثناء عمله في مكتبه المنزلي ببيروت، 02/ 07/ 2024، (هانا ديفيس / سوريا على طول)

معتصم خلف أثناء يعمل في مكتبه المنزلي ببيروت، 02/ 07/ 2024، (هانا ديفيس / سوريا على طول)

 

ترعرع خلف في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بدمشق، وسط مجتمع حيوي من الفنانين والكتاب، ذلك المكان الذي تعرض معظمه للدمار في أعقاب اندلاع الثورة السورية، عام 2011، على يد النظام السوري والقوات الموالية له بالدرجة الأولى، عبر سنوات من الحصار والقصف وارتكاب المجازر، كما تلاشت الأوساط الفنية، التي ازدهرت فيه ذات يوم.

 

في عام 2016، غادر خلف سوريا. عندما تذكر طفولته في المخيم، بدأ يكتب: “الشيء الأخير الذي بقي لنا هو كلماتنا وأصواتنا”.

 

يغطي معتصم خلف مواضيع تتعلق بالاعتقال التعسفي والاحتجاز وترحيل اللاجئين السوريين في لبنان، مشيراً إلى وجود نقص في عدد الصحفيين السوريين، أو الصحفيين عموماً، الذين يركزون على هذه القضايا، قائلاً: “يخشى معظم الصحفيين السوريين في لبنان من التهديدات وتأثير عملهم على حياتهم”، لافتاً إلى أن العديد منهم اضطروا ترك العمل الصحفي وانتقلوا إلى مجالات أخرى أكثر أماناً، أو أنهم غادروا البلد.

 

حقوقي “مُطارد”

 

في أيار/ مايو، اعتقلت السلطات اللبنانية حسين*، وهو موظف سوري في منظمة حقوقية، بسبب عمله في توثيق الانتهاكات ضد السوريين. لم توجه أي تهمة رسمية له، ومع ذلك تعرض للضرب المبرح لمدة 24 ساعة، تم استجوابه خلالها والتحقيق معه بخصوص أبحاثه، كما قال زميله لـ”سوريا على طول”.

 

طلب الزميل عدم الكشف عن اسمه واسم المنظمة التي يعمل بها لحماية حسين، الذي ما يزال متوارياً عن الأنظار في لبنان.

 

بقي حسين تحت المراقبة منذ كانون الثاني/ يناير، على خلفية إشرافه على بحث يوثق عمليات الترحيل من لبنان، وسرعان ما “تصعَّد الوضع أكثر مما توقعنا وفوق الوضع الطبيعي”، قال زميله، مشيراً إلى أن “جميع الاتهامات الموجهة إليه ذات صلة بالعمل في [مجال] حقوق الإنسان أو الإبلاغ عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها السلطات”.

 

وجاء اعتقال حسين واستجوابه في إطار حملة قمع حكومية كبيرة ضد السوريين. في الثامن من أيار/ مايو، أعلنت المديرية العامة للأمن اللبناني، الجهة المسؤولة عن إنفاذ قوانين الهجرة، عن مجموعة جديدة من الإجراءات التقييدية على السوريين  واستأنف حملة “العودة الطوعية”.

 

“ينتهك لبنان حقوق جميع اللاجئين السوريين ويهينهم جماعياً. يُرحل أكبر عدد ممكن. يؤذيهم ويطردهم… المناخ العام هو ممارسة أكبر ضغط ممكن على اللاجئين”، قال زميل حسين.

 

بعد الإفراج عن حسين، انتشرت بعض الأنباء عن تعرضه للإيذاء وسوء المعاملة  خلال الاعتقال. ورداً على ذلك، طلبت السلطات اللبنانية منه أن يدحض هذه التقارير على العلن، بحسب زميله، لكنه رفض ذلك، ومن حيه تحاول السلطات اللبنانية تعقبه.

 

“ما يزال مطارداً، لا يمكنه الذهاب إلى أي مكان، فهو حبيس مخبئه، ولا يمكن لأحد مساعدته”، وفقاً لزميله.

 

رغم أن حالة حسين هي الأكثر عنفاً، إلا أنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها موظفو منظمة حقوقية لضغوط من الدولة اللبنانية، إذ اضطر موظفان سوريان آخران في هذه المنظمة إلى مغادرة لبنان بسبب نشاطهما السياسي، أحدهما غادر قبل شهرين، والآخر في عام 2021.

 

“كل لاجئ مدافع عن حقوق الإنسان إما أنه ترك عمله، أو وجد شيئاً أقل خطورة، أو أُعيد توطينه في بلد آخر”، بحسب زميل حسين.

 

محامٍ لبناني يتعرض للضغوط

 

الناشطون السوريون، الذين يفتقدون إلى الحماية القانونية، هم الأكثر عرضة للإيذاء والمضايقات من قبل السلطات الحكومية، لكن المدافعين عن حقوق الإنسان اللبنانيين ليسوا بمنأى عن هذه الانتهاكات، ويتعرضون أيضاً للضغوطات على خلفية دعمهم للسوريين.

 

محمد صبلوح، 43 عاماً، محامٍ لبناني متخصص في قضايا التعذيب والاحتجاز التعسفي، يواجه تهديداً متزايداً، نظراً لأن معظم مراجعيه من السوريين.

 

بدأ صبلوح بتوثيق الانتهاكات ضد السوريين في عام 2008، غير أنَّ التهديدات التي طالت عمله بدأت بشكل ملحوظ في عام 2021، أي في أعقاب نشر تقرير لمنظمة العفو الدولية ساهم فيه، يتحدث عن الاحتجاز التعسفي وتعذيب اللاجئين السوريين المتهمين بتهم تتعلق بالإرهاب، كما قال لـ”سوريا على طول”.

 

بعد نحو شهر من نشر التقرير، أبلغ عباس إبراهيم، مدير الأمن العام اللبناني آنذاك، صبلوح أنه “لا ينبغي له التواصل مع المنظمات الدولية غير الحكومية”، معتبراً ذلك مساوياً للتواصل مع “الكيان الصهيوني” وارتكاب “الخيانة العظمى”، وفقاً لمنظمة منّا لحقوق الإنسان الإقليمية.

 

وكذلك، اتهم مسؤولون حكوميون صبلوح بـ “السعي لإيقاف التبرعات” لقوى الأمن، التي تدهورت أجورها  في ظل الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت البلاد.

 

دفعت الأزمة الاقتصادية لبنان إلى الاعتماد أكثر على المساعدات الخارجية، خاصة من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ولذلك “يحاول الأمن العام والجيش تفادي نشر انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها بحق السوريين واللبنانيين”، بحسب صبلوح.

 

عندما زادت الحكومة من قمعها ضد السوريين في هذا الربيع، ازدادت التهديدات وعمليات الترهيب، بحسب صبلوح. وفي شباط/ فبراير، فُتحت سيارته المركونة أمام منزله في طرابلس، ثلاث مرات من مجهولين، دون أن يُسرق أي شيء منها، لذا يعتقد أن السلطات متورطة في هذه الحوادث، بسبب مساعيه لتسليط الضوء على ترحيل اللاجئين إلى سوريا. ولكن هذه الاعتداءات توقفت بعد تركيب منظومة كاميرات مراقبة، بحسب قوله.

 

وفي هذا السياق، نشرت ماري لولر، مقرِّرة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بالمدافعين عن حقوق الإنسان،   على موقع إكس (تويتر سابقا)، في 17 نيسان/ أبريل، تغريدة قالت فيها: “نسمع أخباراً مقلقة عن تعرض محامي حقوق الإنسان اللبناني محمد صبلوح للترهيب على ما يبدو لدفاعه عن حقوق اللاجئين السوريين. ويأتي هذا في وقت تتدهور فيه عموماً بيئة [المدافعين عن حقوق الإنسان]  في لبنان”.

 

وأشار صبلوح إلى أن السلطات حاولت ردع المحتجزين اللبنانيين والسوريين على حد سواء لثنيهم عن طلب استشارته ودعمه القانوني. فإن لجؤوا إليه، يتم استجوابهم عن علاقتهم به، لكن المحامي عازم على مواصلة عمله، وما  يزال من أكثر المدافعين عن حقوق السوريين في لبنان نشاطاً.

 

“بعد عشرين عاماً من الخبرة في هذا المجال، يمكنني القول: إن لم نواجه، فلن نتمكن من تغيير ثقافة الانتهاكات… إنها ثقافة مهيمنة سائدة لا يمكن تغييرها بالدبلوماسية، بل بالتوثيق والمواجهة”، وفقاً لصبلوح.

 

لا أنباء من دون صحفيين

 

ولاء صالح، واحدة من الصحفيات اللاتي أجبرن على ترك لبنان لأجل أمانهنّ، وهذا ينطبق على الصحفيين أيضاً. غادرت إلى أستراليا في كانون الأول/ ديسمبر 2023، بعد أن أصبحت الحياة في لبنان لا تطاق بسبب الضغط المتزايد، الذي تمارسه الدولة على اللاجئين ورد الفعل العنيف حيال تغطيتها للانتهاكات ضد مجتمعها.

 

قالت صالح التي فرَّت من دمشق إلى لبنان في عام 2014 لـ”سوريا على طول”  أنَّ تجربتها الشخصية كلاجئة شجعتها وأثرت تقاريرها، لأنها تعيش “ضمن مجتمع من اللاجئين. نواجه أشياء متشابهة، ومخاوفنا متشابهة”.

 

تكتب صالح لوسائل إعلام محلية وعربية، من قبيل: الجمهورية، درج ميديا، وميغافون، وهي من القلائل في لبنان، الذين يغطون بانتظام الانتهاكات بحق السوريين، بما في ذلك التحديات التي يواجهها السوريون ذوو الإعاقة، وتأثير التغير المناخي على اللاجئين.

 

تساعدها هويتها السورية في بناء ثقة مع المصادر، قائلة: “فقد السوريون الثقة في كل شيء، بما في ذلك الصحفيين”، لكن “ربما هويتي السورية ساعدتني. أستطيع تفهم مخاوفهم عندما أجري مقابلات معهم”.

 

في عام 2022، بدأت صالح بتلقي تهديدات على وسائل التواصل الاجتماعي، جراء تغطيتها برنامج العودة الطوعية في لبنان، قائلة: “بدؤوا يسيئون لي بالقول على صعيد شخصي وصحفي أيضاً”.

 

“هناك غضب تجاه اللاجئين السوريين في أوساط اللبنانيين، لذا عندما تكتب صحيفة شيئاً عن اللاجئين السوريين، يهاجم الناس هذه الصحيفة ويقولون أنها تدعم أجندة أجنبية. لا يوجد قبول من الشارع اللبناني”، وفقاً لصالح.

 

أفضى الضغط الممارس عليها، وعلى أمثالها، إلى مغادرتها لبنان، معتبرة ما يحدث “كارثة”، لأن بعض السوريين توقفوا عن العمل كلياً بعد مغادرتهم، بينما استمر البعض، كما هو حالها، بالعمل رغم صعوبات التغطية عن بعد ومساوئها.

 

“لا أنباء من دون صحفيين. لا ندري ماذا يحدث في لبنان”، كما قالت صلاح، لافتة إلى أن “التغطية غير كافية على الإطلاق”.

 

“لم أختر موعد المغادرة”

 

إلى جانب الرفوف المكتظة بالكتب في مكتب معتصم خلف المنزلي، ركن حقيبة سفر فارغة، أشار إليها وقال: “لم أختر موعد المغادرة. الخطر هو من يقودني للرحيل بعيداً”، معبراً عن خشيته من أن يضطر إلى حملها قريباً لمغادرة لبنان.

 

حقيبة سفر فارغة مركونة أمام مكتبة معتصم  خلف الشخصية، 02/ 07/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

حقيبة سفر فارغة مركونة أمام مكتبة معتصم  خلف الشخصية، 02/ 07/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

 

صارت أساليب إخفاء هويته كسوري وصحفي أكثر صعوبة وتحدياً، في وقت صار السوريون تحت المجهر، كما قال خلف، مشيراً إلى أنه كان في السابق يتظاهر بأنه أردني إذا أوقفته السلطات، أو يكذب بشأن عمله.

 

التفت خلف للنظر إلى واحدة من الصور المحببة إليه، وهي صورة ظلّية لشاعر العرب المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس، الذي عاش في القرن العاشر. تلقى المتنبي تعليمه في دمشق وكان في ترحال دائم بين بغداد ودمشق والقاهرة، ويشعر خلف بأنه متقارب معه في جزئية الترحال.

 

يعني الرحيل أيضاً إنزال صورة المتنبي وكل ما يجعل من هذا المكان وطناً، وإنهاء ملجأ آخر، وهذا يعني بالمحصلة تخافتْ الأصوات في لبنان التي تصدح باسم مجتمعه.

 

معتصم خلف يحاكي حركة الإلقاء الأيقونية لشاعر العرب المتنبي، الذي عاش في القرن العاشر، 02/ 07/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

معتصم خلف يحاكي حركة الإلقاء الأيقونية لشاعر العرب المتنبي، الذي عاش في القرن العاشر، 02/ 07/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

 

تم نشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى