“المكوّعون”.. سوريون يحملون السلطة القهرية في ذواتهم … عبد الرحمن الشيخ المكتبي
سقط نظام الأسد وانهار جيشه المتهالك، منذ سنوات، وكما هو الحال مع أي انهيار، خلّفت النهاية أنقاضاً تكشف عن طبيعة هذا السقوط.
رأينا جنود النظام يفرّون أو يُقبض عليهم من قبل الثوار، وشاهدنا الوزارات تُسلَّم تباعاً إلى الحكومة الانتقالية، واستفاق من كان غافلاً عن معاناة وطنه، كما أُزيحت الأقنعة عن وجوهٍ لم يكن متوقعاً أن تتغيّر بهذه السرعة، بعد أن كانت -ولعقود- الواجهة التجميلية للنظام المخلوع أمام السوريين ودول الجوار.
لاحقاً، أُطلق على هؤلاء اسم “المكوّع”، وهو مصطلح مستوحى من الفعل “كَوَّعَ”، الذي يعني وفقاً لمعجم المعاني الجامع: “اعوجاج اليد من عند الكوع أو انحناؤها نحو اليد الأخرى”.
أمّا في السياق السوري، فيشير اصطلاحاً إلى الشخص الذي ينتقل من تأييد جهة ما إلى دعم الجهة المنتصرة، كما يُعرّفه الناشط السوري أنس البرزاوي: “المكوّع هو الشبيح والمطبلاتي الذي يختار الاصطفاف مع مَن يقطن قصر المهاجرين (القصر الرئاسي)”.
“سلطة الأسد القهرية والإعلام والشهرة”
على الورق، كفل الدستور السوري حرية الصحافة والتعبير، لكن الواقع كان مغايراً تماماً، منذ استيلاء “حزب البعث” على السلطة عام 1964 وحتى 2011، خنقت حالة الطوارئ هذه الحريات بشكل منهجي.
لقد فرض النظام سيطرته على وسائل الإعلام من خلال إلزامها بالحصول على تراخيص من وزارة الإعلام، مما أعاق ظهور أي صوت معارض وكشف وجه النظام الاستبدادي القمعي، ما أدّى إلى هجرة العديد من المشاهير، تاركين وطنهم بحثاً عن مساحة للتعبير.
وحتى مع تولي بشار الأسد الحكم، ظل سقف النقد محدوداً عبر المسرحيات والمسلسلات، كمحاولة لامتصاص الاحتقان، حيث لم يجرؤ أحد على التصريح بمعارضته علناً، لأنّ شعارات مثل “دعم فلسطين” كانت درعاً يحمي النظام من الانتقادات الداخلية والخارجية.
لكن الثورة السورية التي انطلقت، عام 2011، قلبت المعادلة، وهنا انقسم الفنانون والإعلاميون بين معارض علني وداعم للنظام، الذي استمر في تسخير الإعلام كأداة للقمع، وعلى سبيل المثال، أعلن زهير رمضان، نقيب الفنانين السوريين السابق، فصل 192 فناناً من النقابة، مدّعياً أنّهم “انتقصوا من سيادة الوطن ورموزه، وتجرّأوا على العلم والرئيس والنشيد والجيش”، واصفاً إياهم بـ”الغربان”.
“علاقة المشاهير بالسلطة القهرية”
عقود من التخويف الممنهج زرعت الخوف في كل مفاصل المجتمع السوري، حتى وصل إلى الأطفال الذين حذّرتهم عائلاتهم من الحديث في السياسة، هذا الخوف أنتج أجيالًا هشّة في مفهوم الحرية، فكيف بمَن أصبح إعلامياً أو مشهوراً.
في كتابها فلسفة الشهرة والمشاهير، تقول كاثرين روب: “لا يمكن أن تكون الشهرة بحد ذاتها مبرراً للتصرف بأنانية أو خيانة. ومع ذلك، فإن هذه المواقف، إذا ما اقترنت بضعف في الشخصية، قد تولد نزعات وإغراءات لا يواجهها الإنسان العادي، وكلما زادت هذه الإغراءات، تعاظمت صعوبة الحفاظ على الأمانة والنزاهة”.
تشير كاثرين إلى أن المقصود بـ”المواقف” هي الأحداث المؤثرة التي يستغلها المشاهير لتعزيز شهرتهم أو تثبيت وجودهم، فهم يسعون من خلالها إلى تقوية مكانتهم التي اكتسبوها مسبقاً بالتقرّب من الجمهور، الذي منحهم القيمة الأولى.
وتوضّح أن الالتزام بالأمانة والمصداقية ينبع أساساً من وجود شخصية متينة وفاضلة منذ البداية، شخصية قادرة على التمييز بين الحق والباطل، مبنية على أسس إنسانية عادلة نشأت في بيئة حرة خالية من الخوف والقمع.
ولكن، تفتقر سوريا لهذا النموذج، حيث لم يقتصر الأمر على الصمت الناجم عن الخوف، بل تجاوز ذلك إلى تملّق بعض الجماعات للنظام القمعي، وهو النظام الذي يتسم بوجه وحشي غير إنساني ويكبت أي محاولة للنقد حتى لو كانت بالكلمة فقط.
ومع مرور الزمن، انسخلت هذه الجماعات عن أي قيم للحرية أو العدالة أو الرحمة، وابتعدت عن التضامن مع المظلومين أو المطالبة بأبسط حقوقها، وبدلاً من ذلك، ارتبطت مصالحها بالنظام القمعي الذي ينهب الممتلكات ويوزعها وفق مصالحه أولاً، ثم على مَن يلتف حوله من المؤيدين.
تضيف كاثرين في كتابها، مفرقة بين أنواع الشخصيات غير الأمينة: “قد يتصرف أحد المشاهير بعدم أمانة بدافع إدمانه على جذب المزيد من الاهتمام، في حين أن آخر قد يلجأ إلى ذلك لحماية المكانة التي يتمتع بها بالفعل”.
“علاقة السلطة بالمشاهير”
سابقاً، كان المشهور بحاجة إلى السلطة لتسليط الضوء عليه، بينما لم تكن السلطة بحاجة له بالدرجة نفسها، حيث سيطر نظام “الأسد” على التلفزيون والإذاعة، فلم يكن بإمكان أي شخص الوصول إلى المراتب العليا من دون اجتياز محطات الخضوع الكامل.
لكن في العصر الحديث، ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، انعكس هذا التوازن، حيث صار بإمكان أي فرد الوصول إلى جمهور واسع، مما أضعف قبضة السلطة على الإعلام التقليدي، وهنا، بدأت السلطة في ملاحقة المشاهير إما لاستمالتهم أو لإسكاتهم.
من الأمثلة على ذلك، محاولة النظام السوري استغلال شهرة اللاعب عمر السومة أو المغني المعروف بـ”الشامي” عبر الترويج إلى رموزه، مقارنة بمواقف لاعبين مثل جهاد الحسين والفنانة أصالة نصري، الذين اختاروا الوقوف إلى جانب الحق مهما كانت العواقب، هذه الأمثلة تعكس تباين المواقف داخل المجتمع السوري، وتظهر أن العديد من القصص ما تزال خفية، حيث يبقى الأمل في أن البعض اختاروا دعم الحقيقة بصمت.
تحاول السلطة أيضاً تحويل المشاهير إلى “نخبة قوية”، كما وصفها بعض الباحثين، توازي النخبة السياسية التي لم تكن حاضرة فعلياً في سوريا، هدفها من ذلك تعزيز نفوذها المحلي والإقليمي عبر استمالة شخصيات من مجالات الفن والثقافة والرياضة وإظهارهم كمؤيدين، بهذه الطريقة، تحاول السلطة ترسيخ واقع قسري يخلو من أصوات معارضة حقيقية.
ولعلّ ما كتبه ديفيد مارشال في هذا السياق يعبّر بوضوح عن هذا المسعى: “في السياسة، يجب على القائد أن يُجسد بطريقة ما مشاعر الحزب والشعب والدولة، بينما في عالم الترفيه، يجب على الشخص المشهور أن يجسد بطريقة ما مشاعر الجمهور”.
لكن في الحالة السورية، لم تكن مشاعر الجمهور خياراً، إذ عمدت السلطة إلى فرضها، محولة المطربين والممثلين وحتى الرياضيين إلى أدوات تعكس رؤيتها القمعية، وتخدم أجندتها.
“المكوع” وتجذر السلطة القهرية
لن يستطيع “المكوّع”، الشخص الذي بالغ في تأييده للسلطة القهرية المخلوعة، التحرّر من آثارها بسهولة والعودة إلى الحق بين ليلةٍ وضحاها، وربما لن يعود أبداً، فالعلاقة بين طرف ضعيف وآخر قهري تترك أثراً نفسياً يصعب تجاوزه.
هؤلاء الأشخاص الذين اعتادوا على التماهي مع القمع قد يتحوّلون بدورهم إلى أدوات قهر، عبر استخدام منابر الشهرة التي يقفون عليها الآن، ينشرون الأخبار الكاذبة، ويعيدون تدوير البروباغاندا القديمة، والاختلاف الوحيد هو القناع الجديد الذي يرتدونه.
في النهاية، يجب على قوى التغيير أن تعيد ترتيب المشهد، وأن تُبعد “المكوعين” عن منابرهم، فمَن تماهى مع قيم الثورة كان صادقاً في معدنه، ومَن غرق في دوامة القمع والتزييف، لا ملامة في إسقاطه.
تلفزيون سوريا