أمام منصة انتخابية في باتلر، في ولاية بنسيلفانيا، كان دونالد ترامب على موعد مع التاريخ، ففيما كان الرئيس الأمريكي الجمهوري السابق يميل برأسه، أثناء الخطاب، ليقرأ رسماً بيانياً حول المهاجرين غير الشرعيين، جاءت الرصاصة التي كان يمكن لها أن تكون قاتلة، غير أنها بالكاد مسّت أذنه، فأسالت خطوط دم على وجهه، برفق لا يمكنه أن يزعج حتى أرق القلوب.
؟
من حيث لا يدري ترامب، كان على موعد مع هديتين؛ رصاصة خائبة لا تصيب، وضعتْ اسمه على لائحة أشهر الاغتيالات السياسية، في الولايات المتحدة والعالم، مقابل عدسة مصور، سيهديه لقطة قد تغنيه عن حملة انتخابية، وتدفعه بقوة قدرية إلى مكان ثابت في الكتب والصحف والمخيلات، وربما إلى البيت الأبيض في الخريف المقبل.
؟
إطلاق النار كان وحده كافياً ليضاعف حظوظه الانتخابية، لكن الصورة كانت الهدية الأغلى. ترامب نفسه قال عنها: «يقول كثر إنها الصورة الأكثر تميّزاً التي رأوها على الإطلاق. إنهم محقّون، وأنا لم أمت. عادة يجب أن تموتوا للحصول على صورة مميزة وشهيرة».
؟
الحديث هنا عن صورة بعينها، التقطها مصوّرُ وكالة «أسوشيتد برس»، إيفان فوتشي، حيث يظهر المرشح الرئاسي ملوّحاً بقبضته، وفي الخلفية العلم الأمريكي، والسماء الزرقاء الصافية.
؟
الكاتب بنجامين والاس ويلز يصف اللقطة بأنها قدّمت ترامب «وكأنه كان ينظر أبعد من الكاميرا، على الجماهير والمستقبل، وهو يتحدى».
؟
العلم مرفرفاً، وقبضة يد بطولية، وخطوط دم على وجهٍ مُصرّ،.. ماذا يحتاج مشهد أكثر من هذه العناصر كي يدخل التاريخ!
المصور السوري عمار عبد ربه تناولَ الصورة في فيديو لـ «درج ميديا»، فقال: «الصورة لها معانٍ وتكوين جميل، مأخوذة من أسفل، فتعطي نوعاً من الفراغ، من دون الناس والمنصة (إنها تعطي نوعاً من العظمة فوق ذلك). ثم هناك العلم، ونعرف أهمية العلم الأمريكي بالحياة اليومية الأمريكية. وعلى وجهه دم، وهي صورة نادرة لرئيس أو مرشح رئاسي بوجه مدمى. وهنا نرى أن أحد الحراس امرأة، ما يعطي لمسة عصرية، غير مألوفة في صور اغتيالات سابقة. ثم هناك القبضة المرفوعة التي تذكّر بمشاهير وأبطال ظهروا بصور رافعي القبضات في لحظات الفوز».
؟
كذلك أشار عبد ربه إلى رباطة جأش المصور، كما تخيَّلَه، الذي أصرّ، في خضم الحدث العنيف والضاجّ والفوضوي على التقاط صورته «براحة بال».
؟
؟
الحاسم في الصورة أيضاً هو أنها تستحضر مشهد رفع الجنود الأمريكيين لعلم بلادهم في إيوجيما، إثر معركة حامية مع الجيش الإمبراطوري الياباني، على ما يشير أيضاً بنجامين والاس ويلز، حيث التقط مصورٌ صورةَ رفع العلم، وأصبحت واحدة من أكثر الصور شهرة في تاريخ الحرب، إذ تظهر الصورة ستة من جنود المارينز وهم يرفعون العلم الأمريكي على قمة جبل سوريباتشي.
؟
هناك عنصر إضافي يقع خارج الصورة، يقبع في مخيلة المتلقي؛ صورة ترامب «القتيل»، حيث أقل من ميللمترات كانت ستجعل هذا الرجل ضحية جريمة قتل وتحريض وكراهية. وذلك سيدفع إلى تضامن مبدئي لا يشترط فحص دم للضحية. متلقٍّ يتضامن في الغالب من دون النظر إلى أن ترامب نفسه طوَّرَ «خطاب التحريض والكراهية، وخاصة ضد الرئيس السابق باراك أوباما»، وخطاباً مليئاً بمفردات لا إنسانية من قبيل «الحثالة» و«الحيوانات» و«أعداء الشعب»،.. على ما يقول ديفيد ريمنيك في «نيويوركر».
؟
المشهد مكون من عدة عناصر تراجيدية: جريمة قتل- دم- تحدٍّ- رفع العلم- قبضة بطولية- وجه مدمى- إصرار على الوصول إلى الهدف.. ستدخل الصورة التاريخ بكل هذه الحمولة، وسيأتي يوم تُشاهَد فيه الصورة من دون السياق الكوميدي، على الأقل، الذي يحيط بالصورة. وأول تفاصيل الكوميديا أن يتحول ترامب، وهو مادة ثرية للكوميديا والضحك إلى كائن تراجيدي عابس ملطخ بالدم، كما لو كان في معركة في الميدان.
؟
سيرتُه، رئيساً، ومرشحاً رئاسياً، تكاد لا تستنفد من يوميات حافلة بالحوادث المضحكة، كلمات، صور، تماثيل عارية، فضائح، .. وهذه كلها ستنسى، وتبقى الصورة الأقرب إلى تلك المأخوذة في خواتيم الحروب.
لن يلتفت سوى قليل من الناس إلى أن إصابة الأذن، الآن خصوصاً بعدما بَرَدَ الدم، هي عنصر كوميدي، وأول ما التُقط حكاية الرسام الهولندي الشهير فان غوخ الذي قطع، تحت تأثير نوبة نفسية حادة، إحدى أذنيه وأهداها لامرأة. ولهذا بتنا نرى لوحة الفنان الهولندي، الذي رسم بورتريه ذاتياً بأذن مضمدة، لكن بوجه ترامب. أو نرى فنجاناً عليه صورة ترامب وبأذن مكسورة.
؟
ومن المتوقع أن تحمل الأيام المقبلة العديد من الأعمال الفكهة التي تستلهم حادثة محاولة الاغتيال.
لكن، تبقى تلك الصورة «الملحمية» هي الأكثر سطوة، ومن المرجّح أنها هي ما سيحمِل ترامب إلى المكتب البيضاوي، لا فكاهات فيسبوك.
؟