رنا الدياب

 

سالم*.. طبيب سوري عمره 53 عاما أقام في مدينة إسطنبول في تركيا مع عائلته لأكثر من ثماني سنوات. دفعه إشكال صغير في البنك بشأن عنوان سكنه للذهاب إلى دائرة الهجرة، لتبدأ منذ تلك اللحظة قصة ترحيل تعسفي غيّرت حياته وفرّقته عن عائلته، كغيره من آلاف السوريين الذين تعرضوا لقصص مشابهة. يروي الرجل لمهاجرنيوز تفاصيل ما حصل معه.

 

إثر مشكلة صغيرة في البنك بخصوص عنوان الإقامة، طلب سالم، الطبيب السوري المقيم في إسطنبول منذ نحو 8 سنوات، موعدا بفرع دائرة الهجرة في المدينة كي يجري تعديل عنوان سكنه، فاكتشف الموظف أن هناك دعوى بحقه منذ ثلاث سنوات بشأن ممارسته مهنة الطب بدون ترخيص.

 

لم يقلق سالم لهذا كونه على علم بهذه الدعوى ولأن لديه استئناف في المحكمة وسيصدر حكم سيقبله مهما كان، فقال للموظف إن الموضوع “يخص القضاء ولا يخصك”. غضب الموظف وبدأ باستجوابه “من سمح لك بممارسة المهنة بدون ترخيص؟”. فبرر له سالم ما حدث قائلا إنه حاول الدراسة وتعديل الشهادة لكن الشروط صعبة للغاية لتحقيق هذا، بالإضافة إلى عائق اللغة وأن لديه عائلة وهو مضطر للعمل لإعالتها، وأنه لا يزال يدرس لتحقيق هذه الشروط.

 

إبطال “الكمليك” بلحظة

 

فما كان من الموظف في نهاية النقاش إلا أن وضع أختاما على ورقة الحماية المؤقتة “الكمليك” لسالم تفيد بإبطالها، بعد أن أعطاه أوراقا لرفع دعوى إدارية لاسترجاعها. موظف آخر أقل مرتبة كان موجودا أثناء النقاش وحاول استعطاف زميله، ولفت انتباهه لوجود عائلة سالم معه، عسى أن يتفهم حالته ويتراجع عن قراره، لكن دون جدوى.

 

واستدعى الموظف الشرطة قائلا لسالم إن عليه فقط أن يذهب معهم للقيام بإفادة ثم الرجوع عنده، وإنه سيحتفظ بالكمليك لديه. نقلت بعدها الشرطة سالم في باص إلى مركز تجمع تزلا في جنوب إسطنبول، ومنذ تلك اللحظة، لم يعد إلى منزله في المدينة ولم ير عائلته.

 

“نموذج مصغر عن غوانتانامو أو سجن أبو غريب”.. مخيم حران في أورفا بالجنوب التركي قرب تل أبيض الحدودية
نُقل سالم إلى مخيم حران في أورفا بالجنوب التركي، ويصف المكان بأنه “معتقل وليس مخيم” وأنه “نموذج مصغر عن غوانتانامو أو أبو غريب”.

 

حيث وُجد سالم كان هناك غرفتان، في كل واحدة منهما يعيش نحو ثلاثين شخصا، حسب قوله. في الغرفة، هناك أربعة شبابيك مغطاة بالتنك والحديد ولا يوجد إلا نحو 10 سم يستطيعون التنفس والرؤية منها.

 

المرحاض خارج الغرفة ويحق للشخص الواحد الذهاب إليه ثلاث مرات خلال 24 ساعة، دون أن تتجاوز المدة ثلاثين دقيقة للجميع، أي يعطى دقيقة واحدة للشخص الواحد وعليهم تدبر أمرهم جميعا.

 

يقول سالم إن بعض وارديات الحرس تعاطفوا معه كونه طبيب ومريض ويحمل تقاريره الطبية معه. وبطريقة غير رسمية، قال إنه دفع المال لأحد الحرس ليشتري له الدواء، فالقائمون على المخيم لا يستطيعون تأمينه بحجة أنه بحاجة لرؤية طبيب، كان طلب معاينته لكن دون جدوى.

 

في إحدى المرات، احتاج سالم بشكل اضطراري الذهاب إلى المرحاض فجرا، لكن طلبه قوبل بالرفض من قبل أحد الحرس الذي قال له “تبول على نفسك”. ظل يخبط باب الغرفة لنحو ثلاثة ساعات إلى أن فتح الحارس الباب أخيرا و”ضربه على ظهره”، فوقع سالم على وجهه ودخل في أزمة صحية، فاضطر الحرس لإسعافه وبقي يوما كاملا في المستشفى.

 

حسب شهادات المهاجرين، بعض المحتجزين موجودون في المخيم منذ 3 أشهر والبعض الآخر منذ 9 أشهر، أغلبهم يملكون الكمليك، لكن تم إيقافهم نتيجة تواجدهم في مدن غير تلك الموجودة على أوراق الإقامة دون أن يتحصلوا على إذن سفر.

 

مخيم كلّس.. “إما للشخص أن يموت فيه أو أن يبصم ويذهب إلى سوريا”

 

أضرب المعتقلون عن الطعام في حران، ووعد الدرك سالم بإخلاء سبيله في حال تدخل لإيقاف الإضراب، وهذا ما فعله. لكن ما أن فُك الإضراب حتى أخذوا خمسة معتقلين من كل غرفة أي عشرة أشخاص، بينهم سالم الذي ظن أنه سيخلى سبيلهم ويعودون إلى إسطنبول، ونقلوهم إلى مخيم آخر لن يخرجهم منه “حتى كتاب رسمي من عند رب العالمين”، حسب قوله، “فإما للشخص أن يموت فيه أو أن يبصم ويذهب إلى سوريا”.

 

هو مخيم كلّس المتاخم للحدود التركية السورية بالقرب من معبر باب السلامة. “مديره لا يرحم أحدا ولا يُخرج أحدا مهما كان وضعه”. بقي سالم فيه شهرين اثنين. (مخيم كلّس هو مخيم سابق لاستقبال اللاجئين السوريين خلال سنوات تدفقهم الأولى إلى تركيا، أي قبل نحو عشر سنوات).

 

“أذهب إلى القطب الشمالي إن أردت لكن لا تضربني”..

 

في الباص أثناء النقل إلى الحدود، “سألنا عسكري: من لا يريد الذهاب إلى سوريا؟ فرفعت يدي، ليبدأوا بضربي بالكفوف والهراوة على قدمي”، فاستسلم فورا قائلا “أذهب إلى القطب الشمالي إن أردت لكن لا تضربني”.

ثم قال سالم إن أحد العناصر التقط فيديو لإظهار أن المجموعة بصمت بكامل إرادتها بعد إجراء مقابلات. تمنّع سالم في البداية، فهدده موظف الهجرة العامل بالقرب من باب السلامة، بإرساله إلى الدرك “حيث يضربون اللاجئين”، فوافق تجنبا للمزيد من الضرب.

 

محامو سالم يذهبون إلى القضاء، لكن القضاة يقولون إنه ليس لديهم كتاب يفيد بإيقاف هذا الشخص وإن إقامته سارية المفعول. أي أن الكمليك بالنسبة للقضاء غير ملغى ولا يوجد باسمه قرار ترحيل. فحين يطلب المحامون إيقاف ترحيل سالم فكأنهم يطلبون شيئا غير موجود أساسا.

 

سأل سالم في كل مرحلة مدير المركز أو المخيم أنه إذا صدر حكما بحقه فلم لا يأخذونه إلى المحاكم أو إلى السجن في تركيا؟ ما الذي يفعله بمركز ترحيل؟ يجيبونه بأنه إذا لديه حكم استئناف فيمكنه الخروج، وعندما يريهم حكم الاستئناف الذي يرسله له محاموه يقولون له إنه بحاجة لقرار إخلاء سبيل، وهذا يتطلب سنوات. فاستخلص سالم من هذه الإجابات أن لا سبيل للخروج، وقيل له في أحد المرات “حتى الله لن يخرجك من هنا”.

 

ضرب بالحديد

 

في واحدة من محاولات الهروب من كلّس قبيل ميعاد الترحيل، يروي سالم أنه نحو 40 سوريا حاولوا الهروب، ألقي القبض عليهم إلا اثنين، تعرضوا “لضرب مبرح”. هؤلاء بالأخص “ضربوا بالحديد. منهم من تكسّر وتهشم والآخر أنهك تماما من الضرب”. لحظة هروبهم وُضع الموقوفون جميعهم خارج الغرف بساحة المخيم على الأرض بصفوف من خمسة أشخاص على ركابهم “لمدة يومين وقضوا ليلتين في العراء”.

 

في النهاية، دخل نحو عشرين فردا من قوات الدرك بكامل عتادهم “بواريد، قناصات.. وكأننا في أفلام رامبو”، فأخذوا الهواتف المحمولة لكل المعتقلين ولم يعيدوها إليهم “إلا بعد إجبارهم على ترك بصماتهم” والدخول إلى الأراضي السورية. لم تنفع أي توسلات أو حالات حرجة، “أكبر عصابة مجرمة في العالم لا تضرب مثلما ضربوا هؤلاء”، حسب تعبيره.

 

“تنظيف أرشيف”

 

عند معبر باب السلامة، يتبين لشرطة المعبر عند الوقوف على الكاميرا، الملف الكامل لكل شخص فيتوضح إن كان لديه حكم من المحكمة، هناك من يوجد بحقه جرم كالقتل والمخدرات وغيرها وأن عليه ألا يخرج من البلاد، ويوضح سالم أن الجندرمة (قوات الدرك) تقوم بإجبار الشرطة على تمرير السوريين على المعبر بغض النظر عن وضعهم داخل تركيا، حيث “يقومون بتنظيف أرشيفهم وتمريرهم”.

 

“رمي إلى الحدود السورية”

 

“يرمى اللاجئون السوريون داخل الحدود السورية بدون أي إجراءات تكفل لهم الإقامة ودون أي مساعدة، ليتدبروا أمورهم بأنفسهم، من لديه صديق أو قريب أو أحد المعارف يذهب إليه، ومن ليس لديه أحد يستأجر مع مجموعة من الأشخاص غرفة في نزل يضعون فيها الفراش، وينامون على الأرض”.

 

قصة سالم استغرقت نحو أربعة أشهر منذ لحظة إلغاء الكمليك بشهر نيسان/أبريل الماضي. يتحسر الرجل المقيم حاليا في أعزاز بالشمال السوري قائلا “عمري كله لم أتعرض لأي إهانة خصوصا بحكم أنني طبيب، وما حدث كان صدمة”.

 

ويقدّر أعداد المعادين بشكل قسري يوميا بنحو 200 إلى 300 شخص إلى الشمال السوري. “يتم اختيارهم بشكل عبثي تماما، حيث يمكن لموظف لم يعجبه شكل لاجئ سوري أن يلغي إقامته ويرسله إلى مراكز الترحيل”.

 

تتكفل حاليا منظمات وحقوقيون بقضيته ولا يعول كثيرا على أي شيء، لكنه ينتظر العودة إلى إسطنبول ولقاء أسرته بفارغ الصبر.

 

 

 

*تم تغيير الاسم وبعض المعطيات حرصا على سالم وعائلته التي لا تزال في تركيا