لطيفة التونسية… ليست زلة لسان … راشد عيسى

 

 

 

 

 

 

أسوأ من الكلمات العنصرية التي تفوّهت بها لطيفة العرفاوي، المغنية التونسية المعروفة، ضد المهاجرين الأفارقة الذين وصلوا تونس من جنوب الصحراء، على أمل العبور إلى الجنة الأوروبية، هناك الأداء، هذا الذي جاء أشد بغضاً من الكلام.
ما قالته لطيفة لم يكن مجرد زلة لسان في نقاش، أو انفعال إزاء موقف مباغت، أبداً؛ كانت المغنية وحدها على الخشبة، تقدمت صوب الجمهور، وصاحت، بكلمات ممسرحة ممطوطة، كل حرف بحرفه: “اللي جايين يحبوا تونس تولّي (تصبح) بلادهم ويوطّنوهم، شو تقولوا لهم؟”، وهذا سؤال إيحائي بالطبع يوجِّه الجمهور نحو جواب واحد، لتكمل هي من بعد بدورها: “ردّ الباب وغرّب”، وحتى لو لم نفهم فعليْ الأمر الواردين في العبارة الأخيرة، فقد جاءت ذراع لطيفة لتتكفّل بالشرح. ثم تتابع: “تونس ملك للتوانسة، فقط لا غير. من الآخر”.

 

وهنا ينطلق الرقص، والدربكة، كما لو أنهما استكمالٌ لوصلة ردح مرسومة سلفاً ضد المهاجرين البائسين، الهاربين ن فقر وجوع ونزاعات مسلحة، وإلا لماذا يغامر الناس بعبور الحدود تحت رصاص خفر الحدود، وبالتيه عبر الصحراء، وخطر التحول إلى جثث تموت مراراً تحت وهج الشمس، أو في سجون الميليشيات أو الأنظمة المستبدة، قبل الوصول إلى فم المتوسط الذي سبق له أن ابتلع موجات هجرة قذفها مصيرُها من كافة أرجاء الأرض، من سوريا وفلسطين وأفغانستان وأرجاء القارة السمراء الحزينة.

يصعب أن تجد فناناً أو مبدعاً في العالم يصرّح بمعاداته للاجئين والمهاجرين على هذا النحو، ليس فقط لأن فناني العالم ومبدعيه غالباً ما يكونون من خلفيات عرقية متنوعة، ولربما مرّوا بتجارب شخصية أو عائلية قريبة من عالم الهجرة واللجوء تجعلهم أكثر تفهماً لأحوالهم، بل وكذلك لأنهم يعملون في حقول تنتمي لقيم إنسانية تجد تجسيدها في دعم حقوق المهاجرين واللاجئين، والدفاع عنهم في وجه سياسات التمييز.

لذلك نجد اليوم أن ألمع نجوم العالم، في وقت من الأوقات، ممثلين لمنظمات تعنى بحقوق اللاجئين، أو سفراء أمميين جوّالين على الفقراء والمهمّشين واللاجئين في المخيمات. من بينهم أنجيلينا جولي، وإيما واطسون، وكيت بلانشيت، وجيجي حديد.. إلى سواهم من سلسلة يكاد يصعب حصرها.

نتذكر خصوصاً المغني الفرنسي جوليان كليرك مع رصيد كبير في العمل من أجل اللاجئين، وكانت تكفيه أغنيته التحفة: “نحن كلنا لاجئون”.

كلنا لاجئون ومهاجرون، من يستطيع أن يثبت أن جدّه الأبعد وُلد هنا وبقي في هذه الـ “هنا” إلى اليوم؟ ثم “أليست أرض البشر لجميع البشر؟”.

وبقدر ما هو عسير إحصاء المبدعين الذي لهم مساهمة ما للدفاع عن المهاجرين، يكاد يكون شبه مستحيل العثور على فنان يصرّح بمعاداته للاجئ أو مهاجر (ها قد فعلتْها لطيفة أخيراً)، فما من سبب يدفع مبدعاً، فناناً، اختصاصه تعزيز النبل والعدالة والكرامة الإنسانية أن يادي مهاجراً، وخصوصاً المهاجر غير الشرعي، هذا لا يمكن إلا أن يكون قد هجّ من مأساة، أو خوفاً من وقوع مأساة، وإلا فمن يغامر بإلقاء نفسه في أفواه هذا العدد الهائل من الوحوش، قد تبدو لطيفة العرفاوي أقلهم وحشية. ما من اشتراط أن يكون المهاجر مهدداً سياسياً، أو اجتماعياً، فالفقر وضيق الحال أيضاً من أسباب اللجوء، وقبل كل ذلك الكرامة الإنسانية، المهددة حتماً في ظل الاستبداد والفقر وغياب العدالة.

الجميع (من بينهم التوانسة الرائعون) يذكّرون لطيفة العرفاوي الآن بأنها مستوطِنة منذ عقود في مصر، وفي لغة مصر، وألحانها وأغنياتها، كيف تشعر إن قال أحد في أم الدنيا إن “مصر للمصريين فقط لا غير”، وإن على الآخرين أن “يردوا الباب ويغربوا”؟ وبالطبع لن تكون أم الدنيا في هذه الحالة، ولن تبقى مصر التي في خواطرنا جميعاً، نحن أبناء الثقافة المصرية، حتى لو لم نزرها مرة. نحن المستوطنين في لهجتها وأفلامها وأدبها وأغنياتها.

خطاب العرفاوي هو أساساً صدى لخطاب ساد البلاد منذ قرر رئيسها أن مؤامرة كونية تجري على تونس لتوطين الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء فيها. منذ ذلك الحين بات التحريض ضدهم على أشده، لوحقوا من رجال الأمن، ومن توانسة على حدّ سواء، وبات من شبه المستحيل أن يعبر مهاجر المتوسط انطلاقاً من تونس، ومع اتفاقية وُقّعت مع الاتحاد الأوروبي، منتصف يوليو/ تموز 2023، للتعاون على الحدّ من تدفق الهجرة غير النظامية إلى شواطئ أوروبا، ومع تخصيص المفوضية الأوروبية مبلغ 127 مليون يورو كمساعدات لتونس، لممارسة الحد من توافد المهاجرين، بات مفهوماً أن الرئيس وجد مهمة ووظيفة له تعينه على الاستمرار في الحكم، أو تثبت حكمه المهدد بسبب تفاقم سوء الأوضاع في بلد الربيع العربي.

 

127 مليون يورو فقط (مبلغ زهيد مقابل المليارات التي يحصلها الجار المصري للمهمة نفسها) كانت كفيلة بأن يبتكر رجل القانون والدستور نظرية مؤامرة كونية خاصة ببلده، مع العلم أن بلده نفسه جاهز للهجيج لو أتيح له، وعلى أي حل فإن أرقام المهاجرين التوانسة، أو محاولات الهجرة، ليست قليلة، وهم في تزايد في عهد رئيس منتخب زمن الربيع العربي.
التوانسة في أوروبا، وفرنسا خصوصاً، متوفرون أنّى التَفَتَّ. ماذا لو قيل لهم: “اللي جايين يحبوا فرنسا تولّي (تصبح) بلادهم ويوطّنوهم، شو تقولوا لهم؟”، ولعلها تقال بالفعل لهم ولغيرهم، بطريقة أو بأخرى، بمَ ستجيب العرفاوي؟!
على أي حال يبدو أنه قد مضى وقت العتب، فمن يُجَوِّد، من دون أيّ اضطرار أو استفزاز، بخطاب الكراهية إلى هذا الحدّ، يكون قد وصل إلى مكان لا تفيد فيه المراجعة، أو الاعتذار. تابعي انفجارك، لكِ طريقتك، فللمهاجرين طرق وطرقات.

 

 

 

٭ كاتب من أسرة “القدس العربي”

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى