مذيعون «فرجة».. والسويداء تحت نيران القصف الإعلامي التمهيدي .. راشد عيسى

 

 

 

 

 

 

 

 

 

انتبهت، أثناء مشاهدة حلقة من برنامج “تريندنغ” على “بي بي سي”، إلى أنني، حتى الساعة، لم أجد، من بين مذيعي ومقدمي هذا النوع من البرامج من يقدم أداء مقنعاً، لقد كانوا على الدوام أقوى أو أضعف مما ينبغي. أقوى كأحمد فاخوري، على سبيل المثال، وقد رشحتْه “قوتُه وبلاغته” للانتقال من “بي بي سي” إلى “الجزيرة” (ومع ذلك لم يقنعني)، وأضعف ككثيرين من مقلّديه.

 

أما الحلقة موضوع الحديث فكانت بعنوان على شكل سؤال: “ما قصة إجبار فلسطينيات على “التعري” بعد اقتحام قوة إسرائيلية منزلهم؟”.

 

الحكاية فظيعة، فقد أجبرت قوة من جيش الاحتلال الإسرائيلي نساء في مدينة الخليل على التعري، تحت تهديد إطلاق كلب مرافق عليهن، وأمام أطفالهن، والقضية باتت معروفة، وضاغطة، إلى حد أن جيش الاحتلال أصدر بياناً ليفسر وينفي ويبرر، ويزوّر كعادته.

 

لكن مذيعة “بي بي سي” كانت فرجةً موازية للشاشة، التي تعرض الحكاية التراجيدية الفلسطينية، بصور تعبيرية، أو تغريدات، وأخيراً برأي لضيف من منظمة “بتسيلم” الحقوقية الإسرائيلية.

 

ليس المطلوب على الإطلاق أن تظهر المذيعة متأثرة بالحكاية التي تقدمها، فمن نافل القول إن المذيع ليس ممثلاً، لكن هذا الحرص الزائد على البلاغة مزعج بعض الشيء (ونشهد أن المذيعة حرصت أشد الحرص على قراءة سليمة من الناحية النحوية)، هنالك نوع من التشدق، والفصاحة المبالغ بها، أداء متكلف وغير طبيعي، يفضل المرء إزاءه قراءة بأخطاء، أو حتى عامية، ولكن بأداء أقرب إلى القلب (لا أحد يزعم أنه يعرف سرّ أداء من هذا النوع).

 

فوق ذلك، يصعب أن نفهم لماذا “يتخطّم” المذيعون هكذا أمامنا، لقد “طَوَشَتْنا” المذيعة بكعبي حذائها، وبانشغالها بسماعة الأذن، كل ما تفعله هنا لا يمكن تفسيره إلا كنوع من سرقة الكاميرا، كاميرا الحكاية المأساوية، لصالح المذيعة التي جعلت من نفسها الموضوع، والفرجة.

 

 

ربما تكمن المسألة هنا، في أن هذا الشكل من البرامج التلفزيونية يحوّل مذيعيه إلى موضوع، لذلك تجدهم يتسابقون في محاولات التظارف، و”التفصحن”، و”التمذرع”، ما أسعدهم عند اللمس فيما يقفزون من شاشة إلى أخرى.

 

رفقاً بالمشاهدين، بل رفقاً بالحكاية التي تقدمون، وإن تحدثنا عن “بي بي سي” فغالباً سنجد موضوعاً يستحق النظر، ومعالجات احترافية، بعكس أداء مقدمي البرنامج.

 

المذيع الكارثة

 

لكن هناك كارثة على شاشة “العالم” الإيرانية، قد تكون سبباً في تحمّل كل ما سواها، فهناك يجثم مذيع على الصدور (برنامج اسمه هاشتاغ)، بأداء لا يمكنك أن تقول إنه قد مرّ من قبل في أسوأ إعلام في العالم. على مستوى اللغة، ستجد أكبر إساءة للعربية، اللفظ (بإمكانه ببساطة مثلاً أن يحول اسم شذى إلى “شظى”)، تقطيع العبارة، بل تقطيع الكلمة نفسها مهما صغر حجمها… حرامٌ أن تضعوا اللوم كله على الأستاذ الذي علّمه، فالمذيع لا يقل كارثية في الأداء، وعلى سبيل المثال شهدناه، في حلقة جديدة عن زلزال المغرب، مندلعاً على الشاشة كما لو كان يرافق بالتعليق لعبة كرة قدم حامية، ابتساماته العريضة ملأت الشاشة، وجعلت أثر الزلازل الرهيب مضاعفاً؛ ماذا فعلنا كي نستحق كارثتين في آن معاً (الزلزال والمذيع الإيراني بالعربية)! نعرف على الأقل أننا أخطأنا بحق مذيعة “تريندنغ” في “بي بي سي”. فأُنْزِلْنا إلى تلفزيون “العالم”، أما كان أرحم لو بقينا هناك!

 

إنكم تتأففون من الذكاء الاصطناعي، تقولون إنه سيدمر روح الإنسان ولمساته الإبداعية على العالم، تحمّلوا إذاً كارثة تلفزيون “العالم”.

 

 

قصف تمهيدي

 

 

نظام بشار الأسد ليس صامتاً تماماً عن تظاهرات السويداء، المدينة السورية الجنوبية، التي تتذوق الآن أبهى ساعات الحرية في ساحاتها وشوارعها، غناءً، هتافاً، ضحكاً، لافتات بالغة الذكاء والجمال والتحدي، فمن يريد أن يسمع صوت القصف التمهيدي فليذهب إلى أصحاب البثوث السامة المباشرة، وعلى رأسهم بشار برهوم، وهذا مواكِب لحراك السويداء لحظة بلحظة، ومقابل كل هتاف منها له بث مباشر اتهامي.

 

لا يريد أن يصدق، مثلاً، هتاف أهل جبل العرب، بأن الشعب السوري واحد. مقابل ذلك يتهمهم بالانفصالية، وحجته أن الشعب في سوريا ولبنان واحد (بالنسبة له هذه مسلّمة نهائية، هو ونظامه الذي لم يعد متأكداً أن بإمكانه قول ذلك حتى عن شركاء سوريين آخرين) ولكن في دولتين. إذاً، بحسبه، إنْ خرجَ المرء ليصرخ ليلاً نهاراً فقط بوحدة الشعب فإن أقرب اتهام له سيكون “الانفصالية”!

 

تتوالى اتهامات برهوم وفيديوهاته، وهي ذاتها التي أطلقها النظام على الاحتجاجات الأولى في العام 2011، أي أن المتظاهرين يقبضون بالدولار، وإنهم “إخوان دروز”، على غرار “الإخوان المسلمين” (لم لا؟ ما دام في إمكانه أن يعتقل مسيحيين بتهمة الإخوان المسلمين).

 

وفي آخر منشوراته وَعَدَ برهوم متابعيه ببث “يكشف جسور ترابط (بعض) من بني معروف وبني صهيون”، وأضاف: “غولدا مائير درزية، وهي غادة المير من القريا”! وهذه الأخيرة هي البلدة الدرزية الأشهر، فمنها انطلق سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى، وهي ظلت، على مدى العقود السالفة، رمزاً ووجهةً وأغنية للسوريين.

 

 

لكن برهوم، والذين معه بالطبع، يتجرأون فيطلقوا الاتهامات يمنة ويسرة. لم يطلق البث بعد، قال إنه لم يُرِد أن يتابع كرمى لسيدة من بينهم. لكنه في الواقع لم يتوقف إلا لأن هذه هي حدود افتراءاته، لا يملك برهوم ما يقوله سوى هذه العبارة، وهي قد وصلت الآن لمن يجب أن تمتلئ صدورهم بالقيح، إن كان هناك مجالٌ بعد. فهكذا هي بلادنا، يكفي أن تنطق باتهام، ليلتقطه ألف كاره كحقيقة نهائية.

 

النظام ليس كسولاً فحسب عن إطلاق وفبركة اتهامات جديدة تتكيف مع عقول العشرية الجديدة، وأحوال المدينة الجديدة، إنه مطمئن بأنه، في أسوأ الأحوال، سيكرر ما فعله في العقد الفائت، وأنه سيجد دائماً أوباما ما، وبوتين، وميليشيات طائفية، محلية وكونية، كمنقذين ومخلصين، وقد تكون هذا المرة مواتية أكثر مع عودة التائبين إلى أحضان النظام، من سوريين وفلسطينيين وعرب.

اللهم احم أهل السويداء وثبت خطاهم، وزدهم جمالاً وحرية.

 

 

 

 

 

٭ كاتب من أسرة تحرير «القدس العربي»

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى