هذا ما يريده السوريون قبل كل شيء … د.فيصل القاسم

لا يسعك أحياناً إلا أن تضحك وأنت تقرأ مئات المنشورات والتغريدات والردود والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تطالب القيادة السورية في سوريا بتطبيق الديمقراطية والعلمانية والدولة المدنية والحفاظ على حقوق كل المكونات.

طبعاً ليس الهدف هنا الإساءة للديمقراطية ولا للعلمانية، أو الدولة المدنية، أو حقوق كل المكونات، لا أبداً، فكلنا يطمح لتحقيق الديمقراطية في سوريا وتطبيق كل ما يتفرع عنها من حقوق في أقرب وقت ممكن، لكن بالله عليكم، هل هذا وقت الاهتمام بهذه الأمور التي تبدو اليوم لعشرات الملايين من السوريين بمثابة رفاهيات ثانوية جداً؟
معاذ الله أن ندعو إلى التقليل من أهمية الدولة المدنية وبناء دولة لكل مواطنيها في سوريا الجديدة، فكلنا يريد الأفضل لبلدنا الخارج من تحت ركام الحرب والتاريخ معاً ولا بأس حتى أن نباشر بتطبيقها تدريجياً، لكن لدينا اليوم عشرات الأولويات التي يجب أن نوفرها لملايين المنكوبين السوريين، فكلنا يعلم أن هناك أكثر من خمسة عشر مليوناً بين لاجئ في الخارج ونازح في الداخل بلا مساكن ولا رواتب ولا أبسط أسس الحياة ومستلزماتها من ماء وكهرباء ودواء وخبز، وقد اعترفت الأمم المتحدة نفسها بأن أكثر من تسعين بالمائة من السوريين في حاجة لمساعدات أولية عاجلة، لأنهم يقبعون تحت خط الفقر.

تصوروا أن الشعوب في أفقر البلدان في العالم تعيش على دولار واحد في اليوم، وهو مبلغ زهيد للغاية، لكن لو جمعت هذا المبلغ على مدى شهر سيكون لديك ثلاثون دولاراً، بينما لا يتجاوز رواتب معظم السوريين منذ سنوات عشرة دولارات أو أكثر قليلاً، وهذا يعني أن السوريين في منزلة متدنية جداً تحت خط الفقر حسب التقديرات الدولية، وحتى السوريون الذين يعيشون في منازلهم يعانون فقدان الكهرباء والماء وأساسيات أخرى، فما بالك بالنازحين الذين يعيشون في الخيام. وبالتأكيد لو سألت أي نازح سوري يعيش اليوم في خيمة: هل تريد الديمقراطية، سيقول لك: أريد بطانية.

ولا ننسى أن النظام الساقط أفرغ خزينة سوريا قبل أن يهرب، وكان على الدوام يهرّب المليارات إلى حسابات خاصة خارجية، وهذا يعني أن الخزينة شبه فارغة وليس هناك أي موارد يمكن اللجوء إليها لتحسين الوضع الخدمي والمعيشي سوى النبش في جيوب المنكوبين والمسحوقين السوريين لتحصيل الأتاوات والضرائب كما كان يفعل النظام الهارب، لكن العهد الجديد يحاول اليوم تأمين الميزانية لزيادة الرواتب بدل فرض الضرائب على الفقراء و«المعترين”.

دعونا نعترف أننا في سوريا الجديدة بقدر ما نحن سعداء جداً بانتهاء أقذر نظام عرفه التاريخ الحديث، فإننا نشعر في الآن ذاته بحزن شديد على الوضع البائس الذي يعانيه غالبية السوريين، فالكل يحتاج إلى رواتب وخدمات أساسية وتعليم وصحة وبنية تحتية، وكل ذلك مدمر أو شبه مدمر، فكيف إذاً نتجاوز هذا الوضع الكارثي ونبدأ بالحديث عن الرفاهيات السياسية؟

دعونا أولاً نؤمن أبسط مستلزمات الحياة للسوريين الذين كان يتفنن النظام الساقط بتجويعهم، وإفقارهم، وإذلالهم، وتهجيرهم. والمضحك في الأمر أن البعض يريد انتخابات في سوريا بأسرع وقت ممكن. لا أحد أبداً ضد إجراء انتخابات حرة ونزيهة لبناء نظام حضاري جديد، لكن كيف نجري انتخابات ونصف الشعب بين مهجر ومشرد داخلياً وخارجياً ولا عناوين بعد أن دمر بشار مدنهم وقراهم؟

كيف نجري انتخابات إذا كانت مخابرات الأسد الهارب قد أحرقت السجلات المدنية والعقارية في أكثر من محافظة؟ ألا نحتاج إلى وقت طويل لإحصاء السوريين أولاً كي تكون المشاركة في الانتخابات حقيقية وليست مزورة، أم تريدونها على الطريقة الأسدية البائدة حيث كان يشارك حتى الأموات في التصويت للقائد الهالك وابنه الهارب ليفوز بأكثر من مائة وعشرين بالمائة؟ وقبل أن نفكر بانتخابات مستعجلة، لماذا لا ننظر إلى التجارب الكارثية في المنطقة؟

ويقول وزير الاعلام الكويتي السابق سامي النصف في هذا السياق: «مع انتهاء الحرب الكونية الثانية عام 1945، احتاجت عملية هزيمة النازية وتطهير آثارها من النفوس لأربع سنوات تُبنى خلالها وتعزز المؤسسات الديمقراطية، وهي: سيادة القانون، وحرية الرأي والمعتقد، وحرمة الأملاك الخاصة، وحق التقاضي، وضمان المساواة والعدالة، وفصل الدين عن الدولة، وهي أمور تتطلب سلطة مطلقة عادلة تفرض وتنمِّي وترعى هذه القيم الخيِّرة التي لا تقوم الديمقراطية من دونها، ثم تأتي بعد ذلك انتخابات لمجلس تأسيسي يضع دستوراً دائماً تجرى الانتخابات العامة طبقاً لنصوصه.

وإذا كانت أوروبا صاحبة التجارب الديمقراطية العتيدة قد انتظرت كل هذا الوقت لتفكر بإعادة إحياء العملية الديمقراطية، فكيف تريدون منا في سوريا أن نجري انتخابات في بلد مدمر ونصف شعبه مهجر ويفتقر حتى إلى أبسط أساسيات الديمقراطية؟ هل تريدون تكرار تجربة العراق بعد سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين عام ألفين وثلاثة؟

لقد أجرى العراقيون انتخابات بعد أقل من عام على سقوط النظام، فانتهى الأمر بالكارثة التي لا تصح تسميتها بالديمقراطية، كما تذكر الدكتورة الباحثة في معهد ويلسون للدراسات مارينا أتاوي، بل كانت عملية محاصصة طائفية جعلت من العراق اليوم واحداً من أفشل الدول في العالم.

ولا ننسى أن وضع العراق المالي أفضل من السوري بعشرات المرات، فالعراق بلد نفطي غني جداً، ولديه ميزانيات سنوية بمئات المليارات من الدولارات، بينما لا تزيد الميزانية السورية على مدى السنوات القليلة الماضية عن مليارين أو أكثر قليلاً.

كلنا نريد دولة حضارية لكل أبنائها البارحة قبل اليوم، ونريد أن نضع أسسها في أسرع وقت ممكن، لكن كما يقول المثل الإنكليزي: لا يمكن أن نعبر النهر قبل أن نصل إليه. دعونا نوفر البنية التحتية ككل الدول الخارجة من حروب وكوارث ثم ندخل العصر الديمقراطي من أوسع أبوابه. لنبدأ بالأولويات والباقي لا شك أنه مهم جداً أيضاً لكنه يأتي تباعاً. ولا أعتقد أن السوريين سيسمحون بتأجيله إلى ما لا نهاية.

؟

؟

كاتب واعلامي سوري
[email protected]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى