كان أحد أصدقائي رساماً معروفاً من رسامي الكاريكاتير في سورية ورجلاً غريب الطباع متناقض الصفات، فهو في آن واحد قاسٍ ورقيقٌ، ساذجٌ وماكرٌ، وديعٌ وشرسٌ، ولكني عندما التقيته أول مرة في مستهل الخمسينيات لم يكن رساماً بل كان محكوماً عليه بالسجن أعواماً طويلة بسبب قتله عشيقته التي شكّ في إخلاصها له، فهو من المؤمنين بأن المرأة لم تخلق إلا لرجل واحد فقط، وكان يعيش العام تلو العام في سجن القلعة بدمشق محشوراً في زنزانة تضم مائة وخمسين سجيناً على الرغم من أنها قد تستوعب زهاء خمسين سجيناً، فكان من الطبيعي أن ينام السجناء بعضهم فوق بعض.
وعندما تلاقينا ثانيةً في الستينيات كان قد غادر السجن، واكتشف موهبته في الرسم، وصارت الجرائد والمجلات السورية تنشر رسومه الساخرة العابسة، وقد أخبرني يوماً أنه يربي في بيته ضبعاً صغيراً، ويُعنى به خير عناية، فقلت له متسائلاً بدهشة : ما هذا الجنون؟ الناس العقلاء يربون قطاً أو كلباً أو حمامةً.
فابتسم معجباً بذكائه الذي لم أفطن له، وقال لي بصوت غير مازح : أنا أربي هذا الضبع الصغير حتى يكبر ويأكل حماتي الغليظة التي تسكن معنا.
وتعوّدت كلما التقيته أن أساله : هل أكل الضبع حماتك؟
فيجيب ضاحكاً : لم يأكلها بعد، ولكنه سيأكلها بإذن الله حين يكبر.
وفي أحد لقاءاتنا سألته سؤالي المعتاد، فتجهم وجهه، ولعن الضباع ومربـيها، وروى لي كيف أن الضبع عندما كبر لم يأكل حماته بل حاول أن يأكل ابنه الرضيع، فاقتاده ليلاً إلى جبل قاسيون الذي يقطن لصقه، وأطلق النار عليه.
ولا تزال تربية الضباع أمراً شائعاً في العالم، تلجأ إليه الدول المتخلفة والدول المتطورة، ثم يتعالى عويلها الغاضب المستنكر المهدد حين تكبر ضباعها، وتنقض عليها، وتنهش قطعاً من لحمها، وهو عويل يخلو من أي ندم، ويتجاهل مسؤوليتها عما حلّ بها.

 

 

 

 

زمان مصدر