الكوارث الطبيعية اكتنفت العام 2023، من زلازل تركيا ومناطق في شمال وغرب سوريا، إلى زلازل وفيضانات المغرب وليبيا؛ وكوارث أخرى صنعها اقتتال جنرالات السودان، شركاء الأمس واليوم في الثورة المضادة؛ ثمّ العام إذ يجرجر أذياله مع بلوغ حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني مستويات قصوى من الهمجية والوحشية والعنصرية، يندى لها جبين عتاة وحوش البشر من التتار وحتى الرايخ الثالث… ربما بسبب هذه الملفات المأساوية الكبرى، وسواها بدرجات متفاوتة، تراجع الاهتمام البحثي بالموضوع السوري، حيث المجازر المفتوحة والشقاء المعمم والتهجير المفتوح والإبادة المنظمة وعربدة الاحتلالات الأجنبية وصنوف التوحش من جانب النظام وشركائه؛ وقد يصحّ القول إنّ المؤلفات الخاصة بسوريا والسوريين صدرت في العام الذي ينصرم بمعدلات أقلّ عدداً عن أعوام ثلاثة أو أربعة سلفت.

وفي تقدير هذه السطور، قد تكون مفيدة الإشارة، بإيجاز يقتضيه المقام غنيّ عن القول، إلى 4 مؤلفات في ميادين تاريخية وسياسية واجتماعية وأدبية؛ على غرار كتاب أوّل بعنوان “سوريا العصور الوسطى وابتداء الحروب الصليبية: عالم بلاد الشام السياسي 1050-1128″، وفيه يسعى المؤرخ البريطاني جيمس ولسون إلى رسم سلسلة من الـ”سكيتشات” الجغرافية والبشرية والسياسية التي كانت تشكل عالم بلاد الشام قبيل انطلاق، وخلال وبعد، الحملات الصليبية المتعاقبة. أطروحة الكتاب المركزية تقول إنّ الغزو الصليبي (كما يسمّيه) عقّد ديناميات القوّة المشتغلة أصلاً وفق صراعات كانت قائمة على مستويات عديدة ثقافية/ إثنية ودينية.

كتاب ثانٍ، مرتبط بالقضية الفلسطينية، هو “الوكالة اليهودية وسوريا خلال الثورة العربية في فلسطين: اللقاءات والمفاوضات السرّية”، الصادر عن منشورات  I.B.Tauris، ضمن سلسلة دراسات جامعة SOAS حول فلسطين. وعلى امتداد خمسة فصول، طافحة بالمعلومات والوقائع والتفاصيل، يكشف المؤرخ الفلسطيني محمود محارب صفحات خافية، قد تكون مخفية عن سابق قصد، حول عمق التغلغل الصهيوني في سوريا، عن طريق الوكالة اليهودية خلال سنوات 1936 وحتى 1930، التي جهدت لإيجاد مصالح مشتركة مع زعماء وساسة سوريين، على نقيض المصالح الوطنية السورية والعربية، وحقوق الشعب الفلسطيني. وإذا كانت دراسات شتى قد سلطت الأضواء على علاقات الوكالة مع ساسة ونُخب في الأردن ولبنان ومصر، خلال الفترة ذاتها؛ فإنّ العلاقات، في شطرها السوري مع “الكتلة الوطنية” و”المعارضة الشهبندرية” وزعماء جبل الدروز، تظلّ قليلة أو حتى نادرة. وقد تكون الخلاصة الأهمّ في كتاب محارب أنه يدحض سردية الوكالة القائلة بأنّ غرض تلك الاتصالات السرية كان تحقيق السلام في فلسطين، إذْ كان الهدف الفعلي هو الالتفاف على الشعب الفلسطيني عن طريق عقد الصفقات مع النُخب العربية عموماً، وفي عدادها ساسة سوريا.

كتاب ثالث بعنوان “إبادة السكن: العمارة، الحرب، وتدمير البيت في سوريا”، الذي صدر ضمن سلسلة الفنون البصرية في Bloomsbury، وفي فصوله الخمس يفعّل عمار عزوز، المعماري السوري والأستاذ في جامعة أكسفورد، مصطلح الـDomicide  بوصفه النهج التدميري الشامل الذي ينتهي إلى الإبادة الجماعية للمسكن والبيت والمأوى، وتقويض العمارة والعمران في نهاية المطاف؛ ولأنه، استطراداً، خيار النظام منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية في آذار (مارس) 2011؛ وكما شهدها عزوز بنفسه، في مدينته مسقط راسه حمص. وإذا كانت انحيازات المؤلف السياسية والأخلاقية والسياسية غير خافية، ولا تخفى معها نبرة إدانة أنساق العنف المختلفة التي لجأ إليها النظام ضدّ البشر والحجر؛ فإنّ تركيزه على الجوانب القانونية ومسائل الملكية وتضييع السجلات والصكوك، يطمس بعض جوانب همجية النظام في ملفات الإبادة الجماعية للبشر، والتطهير المناطقي، والتدمير العشوائي عن طريق أسلحة هوجاء مثل البراميل المتفجرة، والتخريب عن طريق “التعفيش”، وما إلى ذلك.

كتاب رابع يتوجه نحو الأدب، بعنوان “زكريا تامر وسياسة القصة القصيرة السورية: الحداثة، السلطة، والجندر”، الصادر أيضاً عن منشورات  I.B.Tauris؛ للأكاديمي الإيطالي أليساندرو كولومبو، المحاضر في جامعة وستمنستر، لندن. عناوين فصول الكتاب تشهد، سريعاً، على المحاور الكبرى التي اعتمدها المؤلف لإنجاز أبحاث معمقة في أدب القاص السوري الكبير الرائد زكريا تامر؛ فهو يبدأ من علاقات الجدل بين الالتزام والمنفى، وينتقل إلى متغيرات يعتبرها “ذكورية” شملت الحداثة والنزعة القومية ومظاهر التسلط في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم. وأمّا الأنثى الحديثة، حسب تعبير كولومبو، فإنها تغطي الطابع الجنسي لمحتوى القصص خلال الفترة الواصلة حتى السبعينيات؛ ومن الموضوع إلى الذات، يستعرض المؤلف المضاعفات والتجاوزات في الأعمال القصصية التي تغطي أيضاً روابط الأنثى والجنس؛ والفصل الخامس، الأخير، يتوجه نحو تشريح “سقوط الرجل القوي”، حيث الفحولة والمثلية والسلوك “القبضاي”. “في سوريا”، يكتب كولومبو، “ارتبط الأدب والاتجاهات السياسية والتطورات التاريخية على نحو وثيق وغير قابل للانفصام”، إلى درجة أنّ البعض يعتبر ذلك بمثابة “السمة الكبرى التي تميّز الأدب السوري”؛ وهذا ما لم يحظَ باهتمام غربي كافٍ، على غرار علاقات الأدب والسياسة في مصر وفلسطين مثلاً؛ وأبحاث كولومبو في هذا الكتاب تستهدف سدّ بعض تلك الثغرات.

هي، كذلك، حال الكتب الأربعة هنا، وسواها، خلال عام ينصرم؛ من دون أن يُشبع، بما يكفي، شأناً سورياً شاسعاً واسعاً معقداَ.