3 آلاف طفل مفقود في سوريا: أرقام مأساوية تكشف عمق الأزمة
بعد شهر من سقوط نظام الحكم السابق في سوريا، لا يزال مصير الأطفال المفقودين في البلاد يشكل تحديا هائلا. انهيار النظام بعث الأمل لدى ذويهم الذين بدأوا في البحث عنهم في دور الأيتام، واقتفاء أثرهم في ملفات الأجهزة الأمنية السابقة.
لم تخلف الحرب المدمرة التي شهدتها سوريا على مدار ثلاثة عشر عاما الخراب والقتلى فحسب. من بين عشرات الآلاف من المختفين قسريا هناك أطفال تم اعتقالهم مع ذويهم, لم يستدل عليهم حتى هذه اللحظة.
لا أحد يعلم عددهم بالضبط، ولكن أغلب التقديرات تتراوح ما بين ألفين وثلاثة آلاف طفل، بينما أعلى التقديرات تشير إلى خمسة آلاف طفل، يعتقد أنهم تعرضوا للاختفاء القسري على يد أطراف النزاع في سوريا منذ مارس/ آذار 2011.
“كتبت رسالة إلى بشار الأسد فاعتقلوني”
هادي محمد فرعة 45 عاما، فني طباعة من ريف دمشق، كان قد اتفق مع زوجته، التي كانت في شهرها التاسع من الحمل، أن تذهب للإقامة في منزل خالته في العاصمة دمشق استعداداً لوضع مولودها هناك، خصوصا أن منطقة إقامته كانت محاصرة بسبب الحرب الدائرة آنذاك.
غادرت الزوجة المنزل في أحد أيام شهر أغسطس/ آب من عام 2013 بصحبة أبناءها الثلاثة، محمد، ثماني سنوات، إسلام، سبع سنوات، ويوسف، ثلاث سنوات. كان من المقرر أن يلحق بهم هادي لاحقاً.
يقول هادي إن زوجته ذهبت بصحبة فرد من اللجان الشعبية المسلحة، التي شكلتها الحكومة آنذاك، لمساعدتها على اجتياز الحواجز الأمنية.
حسب رواية هادي، فقد تلقى اتصالا هاتفيا من مسؤول من الحاجز قال له “زوجتك وصلت عندنا بخير وسلام، لماذا لم تأت معها؟”. عندما سأله عن سبب المكالمة كان الرد “لا.. مجرد إجراءات أمنية”.
لم ير هادي أسرته منذ ذلك اليوم. يقول هادي إنه طرق كل الأبواب الممكنة طيلة أكثر من أحد عشر عاما، دون جدوى.
“ذهبت إلى وزارة العدل، ووزارة الشؤون الاجتماعية ومحافظ دمشق، كما توجهت إلى الأجهزة الأمنية، إلى فرع المنطقة وفرع الدوريات وفرع التحقيق وفرع الامن الوطني…” حتى أنه بعث برسالة للرئيس السابق بشار الأسد ولزوجته أسماء.
يقول هادي إن تواصله مع الجهات الحكومية أثار غضب الأجهزة الأمنية، فتم اعتقاله لمدة ثلاث سنوات.
“قلت لهم إن كل ما أريده هو أن أعثر على زوجتي وأولادي، ولكنهم قالوا لي ‘أنت تشكوا عناصر الأمن وتكتب للرئيس وللوزراء، وهذا تسبب في مضايقات لنا!”
يقول هادي إنه أثناء فترة اعتقاله تعرض للتعذيب لمدة ثمانية أشهر، حيث حاول سجانوه انتزاع اعترافات منه بسبب انتمائه إلى محافظة إدلب، ومشاركة ذويه هناك في الاحتجاجات ضد الحكومة.
أضاف أنه شاهد داخل السجن الكثير من الرجال يموتون جراء التعذيب، أو من تبعات المرض، ما جعله يفقد الأمل في العثور على زوجته على قيد الحياة بعد كل تلك السنوات. ولكنه لا يزال يأمل في رؤية أبناءه الثلاثة، وطفله الذي لم يكن قد ولد بعد، عندما اختفت زوجته.
ملف الأطفال الذين تعرضوا للاختفاء القسري في سوريا خلال أكثر من عشر سنوات يكتنفه الكثير من الغموض، حيث كان يتم التعامل معه بسرية كاملة.
منذ سقوط نظام الحكم السابق، بدأت تتكشف تدريجيا كيفية تعامل الأجهزة الأمنية مع الأطفال المختفين قسريا.
تحت شعار “سري للغاية” كانت الجهات التي تحتجز الأطفال تودع عددا من أبناء المعتقلين والمحتجزين في دور الأيتام، مع التحفظ الكامل على ملفاتهم ومنع الكشف عن هوياتهم، والتشديد على تلك الدور بالتكتم والسرية.
تقول مها دياب وهي مديرة “جمعية المبرة النسائية للتنمية الاجتماعية وكفالة الأيتام” إن تلك الجهات كانت تمنعهم بشكل قاطع من مجرد ذكر أن لديهم هؤلاء الأطفال.
“كان إجباري علينا ما نحكي أبداً أبداً، ولا نقول إنه في عندنا أولاد منهم”.
ولكن حسب السيدة مها دياب، كانت الجمعية تحاول “من تحت لتحت”، حسب تعبيرها، أن تستقي من الأطفال أية معلومات تدل على هويتهم الحقيقية، حيث كانت السلطات تسجلهم بأسماء مستعارة عند إدخالهم المؤسسة. “كان الكبار منهم يصححون لنا أسماءهم ويدلون بمعلومات عن ذويهم”.
مخاوف من اختلاط الأنساب
منذ سقوط نظام الحكم في سوريا، سلمت دور الأيتام العشرات من أبناء المعتقلين السياسيين إلى ذويهم، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان. ولكن هذا العدد يظل ضئيلا جدا مقارنة بآلاف الأطفال المفقودين، والذين تقول الشبكة السورية إن عدداً كبيرا منهم كان قيد الاعتقال.
بعض روايات شهود العيان أفادت بأنه حتى داخل السجون لم يكن يشار إلى الأطفال المعتقلين بأسمائهم الحقيقية، ما يجعل عملية التعرف عليهم من خلال روايات الآخرين غاية في الصعوبة.
مع التغيرات التي شهدتها سوريا خلال الأسابيع الأخيرة، تواصل عائلة رانيا العباسي، الملقبة بأشهر معتقلة في سجون النظام السابق، البحث عن أي معلومة تقود إلى معرفة مصيرها هي وأطفالها الستة، وبينهم رضيعة كان عمرها أقل من سنتين.
اعتقلت العباسي، وهي طبيبة أسنان وبطلة شطرنج سابقة، في مارس/ آذار عام 2013 من منزلها مع أبنائها الستة ومساعدتها الشخصية، بعد يومين من إلقاء القبض على زوجها عبد الرحمن ياسين.
في حديث عبر الهاتف مع بي بي سي، قالت أحلام ياسين، شقيقة زوج رانيا العباسي، إنها تخشى من العواقب الوخيمة لإخفاء هويات الأطفال، وتساءلت “ماذا لو تزوج شاب من شقيقته بعد ذلك؟”
“نخاف أن نسأل لأننا إرهابيون”
إن كان فادي قد تمكن من طرق الأبواب الرسمية للسؤال عن أطفاله، فهناك آخرون لم يكن بوسعهم ذلك بسبب وجودهم خلف خطوط المعارضة.
ياسر سليمان كان أثناء الحرب ناشطا محليا في حي زملكة في منطقة الغوطة، شرق العاصمة، وهي المنطقة التي شهدت أطول حصار خلال الحرب السورية، من عام 2013 إلى 2018.
يقول ياسر إن ابن شقيقه، عبد الهادي موفق سليمان، قرر مغادرة المنطقة بعد مقتل والده وعمه في غارة جوية على المنطقة في أغسطس/ آب 2013.
كان يريد اللحاق بوالدته في العاصمة دمشق، التي لا تبعد عن الغوطة أكثر من خمسة كيلومترات.
يقول ياسر إن عبد الهادي لم يصل أبدا إلى والدته، وإن الأمل لا يزال يراوده بأنه سوف يراها يوما ما.
انتماؤه إلى المعارضة جعل التواصل مع الجهات الحكومية شبه مستحيل، لأنها تعتبرهم “إرهابيين” كما يقول ياسر.
ولكن سقوط نظام الحكم وفتح وثائق وملفات أجهزته الأمنية بعث الأمل من جديد لدى ياسر، في التعرف على مصير عبد الهادي.
“طبعاً أملنا بالله كبير، ونأمل أن يصلوا لوثائق تجيب على سؤالي ‘هل لا يزال على قيد الحياة أم قُتل؟'”، على حد قول ياسر.
ملف الأطفال المفقودين هو حاليا بين يدي وزارة الشؤون الاجتماعية في سوريا. إبراهيم بكور، معاون وزير الشؤون الاجتماعية، الذي تسلم عمله منذ شهر بالضبط، يقول إنه “يشكل تحديا” مضيفاً أن الوزارة شكلت لجنة للحصول على الأدلة لتقديمها للعالم “بعد جمع كامل الأدلة والوثائق”.
“حداد لن يكتمل”
من بين آلاف الغائبين هناك من لم يثبت إن كانوا قتلوا خلال الحرب.
عبير شعبان، التي كانت تعيش في حي جوبر خلف خطوط المعارضة في شرق دمشق، اختفى زوجها الذي كان تاجرا للحبوب. شاهدت ابنها أحمد آخر مرة بعد تعرض الحي لقصف جوي عنيف، في أغسطس/ آب عام 2013. كان عمره آنذاك 14 عاما.
“يومها راح كتير أطفال. شفت أشلاء رجال ونساء وأطفال” تتذكر عبير، ولكنها لم تعثر على جثمان ابنها، وبالرغم أن عناصر المعارضة قالوا إنهم قاموا بدفنه، إلا أن هناك أملا في رؤيته حيا.
لم تعثر عبير على ما يشير إلى ما إن كان ابنها أحمد حيا أم ميتاً، ولا عن زوجها الذي اختفى قبله بستة أشهر، بعد توقيفه عند حاجز أمني .
إغلاق ملف أي مفقود أو مختفٍ قسريا، لا يتحقق إلا بالعثور عليه على قيد الحياة، أو إثباتِ وفاته عبر العثور على جثمانه. دون التحقق من ذلك، سيظل ذوو المفقودين معلقين بين أمل التئام الشمل في يوم من الأيام، أو حداد لن يكتمل أبدا.
bbc