كيف نتأكد من دفن بشار الأسد؟ … راشد عيسى
يصعب أن يتلمّس أحدٌ فرحة السوريين بسقوط نظامهم كما يعيشونه هم اليوم، تحديداً أولئك الذين بقوا في ظلّ ظلمه حتى اللحظة الأخيرة. لن يتذوق أحد فرحة هذه الأيام كما ينتعش بها كل من طاله ظلم عائلة الأسد المخلوع، ربما حتى من دون أن ينتبهوا إلى أن المشهد، كما وصفتْه زائرة لبنانية لدمشق، أشبه بفرح عارم في قلب مأتم عظيم.
لم تتبدل أشياء كثيرة على المستوى المعيشي حتى الساعة، إلى الحد الذي يدفع أحداً للقول «حتى طعم الخبز تغير»، ولربما لم يتغير طعم الخبز بالفعل، بقدر ما تبدل كل شيء حوله؛ الناس يصرخون في الشوارع، على الهاتف بأعلى أصواتهم، يخرجون من دون أوراق رسمية، من دون «دفتر العسكرية» خصوصاً، لن يعودوا إلى الهمس ثانية، وإلى تكرار المقولة اليومية الخالدة «للحيطان آذان»، باتوا يتهكّمون: «بل للحيطان ألسنة»، كناية عن شعور هائل بحرية القول. يتهاتفون ويتنادون كي يخبر بعضهم البعض الآخر: أرجوك قل لي إن النظام سقط، إن بشار فرّ، على غرار ما فعل ندماء أبو نواس عندما التقطوا بيت الشعر ذاك: ألا فاسقني خمراً، وقل لي هي الخمر.
لم يصحُ السوريون من نشوة انتصارهم ليلتفتوا إلى نقاش قضاياهم، فالوقت، ما زال، للاحتفال، للنزول إلى الشوارع والساحات والمقاهي، لرفع رايات النصر، لاستقبال الأحباب العائدين:
عادوا..
من آخر النفق الطويل إلى مراياهم.. وعادوا
حين استعادوا ملح إخوتهم، فرادى أو جماعات، وعادوا
من أساطير الدفاع عن القلاع إلى البسيط من الكلام
لن يرفعوا، من بعد، أيديهم ولا راياتهم للمعجزات إذا أرادوا
عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم، ويرتّبوا هذا الهواء
ويزوّجوا أبناءهم لبناتهم، ويرقّصوا جسداً توارى في الرخام
ويعلقوا بسقوفهم بصلاً، وباميةً، وثوماً للشتاء
وليحلبوا أثداء ماعزهم، وغيماً سال من ريش الحمام
عما قليل، سيُستأنف كل شيء، السياسة، والصحافة، والأعراس، ورفع الأنقاض، ودفن الأحباب، والكلام، من أجل استكمال الرواية. نعرف جميعاً ما حدث ويحدث منذ عقود في هذا البلد، أما الآن فسنعيش متعة ملء الفراغات وترميم الذاكرة. كل يوم هناك قصة جديدة ستعود بنا إلى حقبة ما، ستسعفنا بحل لغز، وعلى الأقل ستنعش الذاكرة وتكمل جانباً ما.
يروي مفلح الزعبي مثلاً، في مقابلة تلفزيونية، تفاصيل قتل بشار لوالده محمود الزعبي (رئيس الحكومة الأسبق)، فتعود تلك السنوات بوضوح أشد. بل سنفهم منه حالة حافظ الأسد الذي كان آنذاك يغطّ في خرف عميق، على ما يبدو.
سيروي حيدرة سليمان، نجل رجل الاستخبارات المعروف بهجت سليمان، لِيتَّهم بشار بقتل والده أيضاً، فلا تصدق ما تسمع (فقد كان سليمان عرابه ومعلمه وبوقه الصداح)، لا تصدق ما ترى، أن يكون هذا الذي هدّد المعارضين مراراً، ناقماً على بشار، بل سنفاجأ بأنه قد خرج للتو من سجن عدرا على يد الثوار السوريين. وهو سيروي كيف لَفَّق بنفسه الاتهامات للمعارضين، وكيف ساهم بإدارة «الجيش الإلكتروني السوري»، الذي كان يعمل بموظفين ورواتب لمهاجمة معارضي النظام.
كل يوم مفاجأة، وقصة، تكمل، أو تقلب، ما نعرفه كلياً. من دون أن تبدّل معرفتنا الأكيدة لعصابة الإجرام والسلاح الكيميائي ومصانع وتجارة الكبتاغون.
وعلى ما يبدو فإن الحدث السوري سيعطي الصحافة، ومعها الأدب ومختلف أنواع الفنون، خبز ثلاثة عقود بحالها (أستوحي هنا عبارة كاتب فرنسي). حتى الآن قرأنا عشرات الموضوعات المطوّلة تحت عنوان «القصة الكاملة لهروب الرئيس المخلوع»، وستتكفل الأيام القادمة بملء فراغات اليوم الأخير، هذا وحده ستكتب له مسلسلات.
لن تكفي عشر سنوات بحالها لاكتشاف أسرار حكم عائلة الأسد، مصانع الكبتاغون (هذا الذي ملأ الدنيا شرقاً وغرباً)، فروع الأمن، السجون.
الألبوم العائلي وحده سيستحق وقفات طويلة، ومن سوء حظ الهاربين أنهم هربوا على نحو عاجل جداً، ولم يلحقوا حتى اصطحاب صورهم الشخصية، فباتت هذه على وسائل التواصل الاجتماعي بين أيدي الجميع، للتهكم والتعليق والضحك.. الحمد لله أننا عشنا لنرى هذه الأيام، نسخر من صورهم، ورسائلهم الهزيلة، وانحطاط ثقافتهم.
لا ندري إن كنا قد انتهينا تماماً من حفلات تحطيم التماثيل، فكل يوم نكتشف أن هذه لا تحصى، لا في الشوارع والساحات فحسب، بل تجدها في أروقة المؤسسات، وفي الثكنات القصيّة، وفي أبعد المغر التي لن تصلها إلا عيون العسكر الأكثر إخلاصاً للنظام. ويبدو سيمرّ وقت طويل قبل أن يختفي أثر صور العائلة المجرمة من الجدران وواجهات المؤسسات، فكثير من الصور جزء من إسمنت أو سيراميك المباني، المجرم يترك أثراً، ليس من السهل التخلص منه.
ليس من السهل أن يزول أثر الوحش من حياتنا، أساساً هذه هي وسيلته في ملاحقتنا ومطاردتنا إلى أقصى منافينا. معروف أن السوريين كانوا يعيشون كابوساً جمعياً، يرون في نومهم أنهم مطاردون أو ممسوكون على الحواجز، ويبدو أن ليس من السهل أن يزول الكابوس، حتى بزوال النظام، حتى برواية الحكاية السورية ألف مرة، إن تحدثنا عن أجيال عشش فيها الرعب.
سنرى، عسى غداً تنجينا محاكمتهم وتخلّصنا من تلك الكوابيس، لا بدّ من التأكد أننا دفنّاهم تماماً.
هكذا سيصحو أطفالنا من بعدهم على مدارس خضراء، من دون الهتافات الصباحية البغيضة، من دون دفاتر وكتب مدرسية مشوهة بصُورهم، من دون أن تهمس الألسنة بأسمائهم همساً، إذا كان ضرورياً أصلاً أن نتذكر أسماءهم.
بات بالإمكان إذن أن «نرد لهلنا» (لأهلنا)، على ما قال شاعر: «يجي يوم ونرد لهلنا، نلم حزن الأوهام، وثياب الصبر، ونرد لهلنا..».
اشتقنا إلى خبز لم نأكله منذ اثنتي عشرة سنة، إلى أحباب، وبيوت، وشوارع لطالما حلمنا بها من دونهم، من دون عصابة الأسد.
؟
؟
* كاتب من أسرة «القدس العربي»