شاعر سوري في موقع إسرائيلي.. وصفة خائبة… راشد عيسى

 

من فرط ما يُتَّهم أدباء كبار، رغم مواهبهم التي لا يمكن إنكارها، بأنهم حصلوا على مكانتهم، وجوائزهم، وكامل امتيازاتهم، عبر ممالأة الغرب وإسرائيل واليمين الأوروبي وأفظع الأفكار العنصرية، بات، على ما يبدو، هاجس صغار الكتّاب أن يختصروا الطريق، ويذهبوا فوراً إلى الوصفة، من دون الاضطرار للمرور بطريق الموهبة.
يبدو أن أحدهم قرر بالفعل الذهاب إلى الأقصى. تخيّل مثلاً شاعراً سورياً يعاني بلده الويلات من إسرائيل (أعلن أنه سيزورها بالتأكيد)، هذه التي فَلَحَت بلده مرات لا تحصى، جيئة وذهاباً، خلال العشرية الأخيرة، يذهب إلى موقع إعلامي إسرائيلي شاكياً، في مقابلة، بأنه “لم يعد يعرف بلده”، وهو بالطبع لا يقصد ما فعلته الدولة العبرية التي يتشكّى ويتمرّغ في أحضانها، والأكثر غرابة أنه لا يقصد نظام الأسد، الذي لا يحمّله أي مسؤولية في طول المقابلة وعرضها.

استطاع الشاعر الستيني، المقيم في فرنسا منذ العام 1995، أن يأتي بعائلته إلى هذا البلد، قبل خمس سنوات، “بعد أن عانت أسوأ ما في الأمر، سواء على أيدي المسلمين المتطرفين في سوريا، أو على أيدي السلطات التركية”، حسبه، ولا يفوته أن يعلن أن “أردوغان يقود نظامًا إرهابيًا”، فمخيلته ستقترح أن التصريح بكراهيته لأحد ألدّ أعداء إسرائيل، في السنة الأخيرة خصوصاً، سيقرّبه خطوة من الجمهور العبري.
يتابع: “لم يسمحوا لنا بمغادرة المطار، لقد أوقفونا وأخذوا أموالنا وضربونا، ولم أعد أعرفهم”.
من سوء حظ الشاعر (57 عاماً)، أن فرصته إلى صحافة إسرائيل جاءت متأخرة كثيراً، في وقت انكشفت فيه أمام العالم كله، تحديداً مع انتفاضة الجامعات في أوروبا والولايات المتحدة، وأماكن أخرى حول العالم، واستقالات، ولا شك أن الشاعر كان يأمل أن يكون هؤلاء الشبان جزءاً من جمهوره، غداً عندما يدعمه اللوبي الإسرائيلي بالحصول على جوائز وأسفار وإطلالات تلفزيونية وخلافه.
ومن سوء حظه كذلك أن أبرز قادة إسرائيل (بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه المقال يوآف غالانت) أصبحوا مطلوبين دوليين، تماماً بالتزامن مع ظهور مقابلته في موقع عبري. صورة لم نكن نتخيل أن تحشر فيها إسرائيل، نظراً لقوة التضليل المستمر منذ أكثر من سبعين عاماً.
تخيل مثلاً ما الذي سيسمعه الشاعر من رافعي العلم الفلسطيني في الملاعب والشوارع والجامعات، وقبل كل ذلك في البرلمان الفرنسي، من بينهم شخصيات يهودية مرموقة سبق أن أصدرت بياناً صريحاً يدين المذابح الإسرائيلية بحق قطاع غزة.
يخشى الشاعر، مع فرصة العمر هذه، أن تفلت روايته من ناحية ما، أن يكون الولاء ملتبساً، فيتخيل أن الرواية الإسرائيلية تفترض أن عليه محو أدب المقاومة وشعراء الجنوب وتوفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش. متناسياً أن الأخير، على الأقل، حاضرٌ من وقت لآخر، على نحو ما، حتى في قلب الجدل الإسرائيلي، إثر فيلم وثائقي هنا، أو إمكانية إيراد نص له في كتب التعليم هناك.
يتطرق الشاعر السوري إلى ذلك في سياق حديثه عن العلاقة بين الشعر والسياسة: “يمكنك أن تتحدث عن القدس أو أي مدينة محبوبة. يمكنك أن تتحدث عن موقفك السياسي. لكن إذا تحدثت مباشرة عن هذه القضايا ووضعتها في محور الشعر، فإنك تأخذ منها الشعر”.
مثاله في ذلك زملاؤه في سوريا: “كما في سوريا مثلاً، وأيضاً في جنوب لبنان، جماعة «شعراء المقاومة» في أوائل التسعينات. توفيق زياد، وسميح القاسم.. كل من يطلق عليهم “شعراء المقاومة” لم يصمد شعرهم أمام اختبار الزمن، فشعر محمود درويش مثلاً لم يعد فاعلاً في عالم الشعر العربي المعاصر”.
الشاعر ذو الدواوين الشعرية الأربعة، ولا يتعرّف إليه حتى الزملاء في ملتقى جامعة حلب الأدبي، حيث يزعم الانتساب، بدليل أنك لا تجد اسماً واحداً من بينهم أبدى أي إعجاب أو تفاعل مع الشاعر المزعوم عندما نشر مقابلته، وديوانه الشعري المترجم حديثاً إلى العبرية. (بالطبع كان لا بدّ من الذهاب إلى صفحة الشاعر على فيسبوك للتأكد من أنه يتبنّى الحوار المنشور في الموقع العبري، وهو في الفترة الأخيرة يكاد نشاطه يقتصر على منشورات تتعلق بديوانه المترجم والمنشور بالعبرية، متوجاً بهذه المقابلة).
الشاعر السوري إذاً يكره شعر المقاومة، والشعراء المقاومين، ومغرم بالشعر العبري، لكن قصته مع إسرائيل لا تنتهي فقط بحبه للشعر العبري، بل أيضاً بدعمه المطلق للدولة. في الوقت الذي يعارض فيه معظم العالم الغربي تصرفات إسرائيل في غزة ولبنان، ويطالب الطلاب في جامعات النخبة بمقاطعة إسرائيل”. حسب تعليق الموقع العبري، ناشر المقابلة.

يكره شعر المقاومة والشعراء المقاومين، و”لم يعد قط إلى قريته الصغيرة حيث ولد. ولا إلى بيروت حيث هاجر من سوريا. وفي الواقع، يكشف أنه، بسبب الوضع في أوروبا، فإنه يخجل من أن يكون جزءاً من العالم العربي ويتحدث لغته”.
كل هذه “المواجع” يبوح بها “شاعرنا” لموقع ينتمي لدولة رئيس حكومتها مطلوب، لأنه مسح بلداً كاملاً، هدمَ، جَوّعَ، شرّدَ، اعتقلَ، اغتصبَ في السجون، قتل وأصاب ما يزيد على 148 ألفاً من الفلسطينيين، وفي لبنان (البلد الذي احتضن الشاعر السوري لاجئاً وصحافياً لسنوات قبل وصوله إلى باريس) دمّرَ قرى، وهجّر أهلها، وقتل حوالى 4 آلاف شخص،.. دون أن يخطر للشاعر لوم تل أبيب على أي شيء. في وقت لا يتردد الإسرائيليون أنفسهم في التعبير عن خزيهم وعارهم إثر ما يحدث في غزة، ومذكرات التوقيف الدولية المحرجة لإسرائيل.
يعجبه أنه يعيش “مع امرأة كانت والدتها طفلة اختبأت في وقت المحرقة، ولقي أجدادها حتفهم في أوشفيتز”. و”أعيش بالكامل في إطار الثقافة والأعياد اليهودية. لدي العديد من كتب الصلاة لأن الشعر بالنسبة لي هو صلاة”.
يحلو للشاعر أن يغرق في مأساة حدثت منذ عقود، ولا شك أنها تستحق كل التضامن، لكن ماذا عن المأساة المرتكبة على مرأى العالم كله الآن، المنقولة على الشاشات بالتفصيل، لماذا تشيح بوجهك عنها، أيها الشاعر الرهيف!
تستهويه صلاة الآخرين وأعيادهم وثقافتهم، لكنه يخجل بصلاة أهله وأعيادهم وأحزانهم.
يتخيل الشاعر أن هذا الانحياز الأعمى سيضمن له طريقاً إلى العالم ومنابره وصحفه، فيما نتخيل أنه النموذج الذي سيثبت أنه ليست الممالأة ومجاراة اليمين والإسلاموفوبيا إلا أشياء قد تكون للمفاضلة بين موهبتين كبيرتين، أما عديمو الموهبة، حتى لو ظهروا في مقابلة هنا أو هناك، فسيظلون عديمي الموهبة.

كاتب من أسرة «القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى