
” لا أريد شيئًا”… كاظم آل طوقان
” لا أريد شيئًا”…
آخر ثلاث كلمات خطّها معتقل في سجون القرامطة قبل أن يُساق إلى الإعدام.
لم تكن رفضًا لطلبٍ عابر، بل كانت إعلانًا صريحًا عن انقطاع كل خيط أمل في دنيا انتزعها الاستبداد منه.
“لا أريد شيئًا”… كتبها لأنه يعرف أن القاتل لا يُستعطف، وأن الظالم حين يُمسك برقبة ضحيته لا يلين قلبه، بل يتلذذ بقطع أنفاسه الأخيرة.
” لا أريد شيئًا”… لقد جفّت الأقلام ورُفعت الصحف، وأيقن أن موعد خروجه قد حان، لا إلى الدنيا التي شوّهها الطغيان، بل إلى عالم آخر حيث يلتقي من سبقوه، بعيدًا عن قسوة السجان وأفران الجثث ومكابس الدماء.
” لا أريد شيئًا”… تُرى، لو كان له أن يتمنى، ماذا كان سيقول؟ رؤية الأهل؟ لحظة وداع أخيرة؟ وهل يأمن على أهله إن أتوا أصلاً؟؟؟ كان يعرف أن حتى الأمنيات في حضرة الجلاد تتحول إلى تهمة،، فماذا سيكتب لمن اعتاد أن يذيب الأجساد في الأفران ويواريها في المقابر الجماعية؟
“لا أريد شيئًا”… قصيرة في حروفها ، لكنها في الحقيقة وصية كاملة، تختصر العمر كله، وتترك للأحياء مسؤولية ثقيلة: أن لا نسمح لتلك الرقاب أن تُجزّ مرة أخرى، وأن لا نعيد خطيئة الأمس حين قلنا للجلادين: “أنتم الطلقاء”، فذبحونا من جديد بينما كنا نلملم بقايا الرفات هنا وهناك.
” لا أريد شيئًا”… احفظوا هذه الوثيقة، لا كجملة عابرة، بل كصرخة للأجيال، ودليل على حجم الفقد الذي دفعناه في سبيل الحرية، لتكون شاهدًا أن قضيتنا أقدس من منصب، وأن تمسّكنا بحكومة لم يكن إلا درعًا نحمي به رقابنا من المسوخ الذين لا يزالون حتى اليوم يهددون بما هو أبشع من صيدنايا.
“لا أريد شيئًا”… لم تكن رفضًا، بل كانت الطلب ذاته: أن نصون دماء الضحايا، أن نحرس ثورتنا ، وأن لا نسمح للذاكرة أن تُمحى ولا للصرخات أن تُدفن
” لا أريد شيئًا”…وعند الله تجتمع الخصوم



