“دائرة نفوس” غامضة وسط دمشق ترسم وجها مختلفاً للعاصمة

زيد قطريب

دائرة نفوس، لكن بلا قيود أو سجلات شخصية، تنمو بعيداً عن المؤسسات وإحصائيات السكان، أبطالها أناس مجهولون، يقضون حياتهم في العراء، دون أن يعرفهم أحد. غامضون في نظراتهم وردّات أفعالهم. لكنهم في العمق، يبدون طيبين لم يأخذوا الفرص الكافية كي يقدموا أنفسهم كما يحبون!.

إنهم الوجه المسكوت عنه في البلاد، أشبه ببورتريهات خارج الكادر، بلا عناوين أو جغرافيا، كأنهم يمتلكون المدينة، بأرصفتها وشوارعها وساحاتها العامة، ينامون أينما شاؤوا، عندما يداهمهم النعاس. يأكلون بلا مواعيد، ويشعرون بالامتنان، إذا ما حصلوا على أي شيء.

الرحلة تبدأ، من شارع الثورة، حيث يجلس رجل غامض على حافة الرصيف، بعيون زائغة، وجسد يشبه الحطام.. لا يتسول ولا يطلب شيئاً من أحد، فقط يحدق كأنه لا يصدق ما يراه.. وللوهلة الأولى تعتقد أنه ينتعل حذاءً في قدميه، لكنك تكتشف أنها طبقة سميكة من السواد تغطي يديه ورجليه!. هل يعمل هذا الرجل في تزفيت الشوارع، حتى بدا قاتماً بهذا الشكل؟

نسأل الجوار، إن كانوا يعرفون من يكون، فيهزون رؤوسهم بالنفي. نقول لبائع الكتب القديمة عند الجسر الحديدي، إن كان لهذا الرجل اسم أو هوية، فيردّ بأنه يغيب فترة طويلة ثم يظهر، دون أن يقول شيئاً!. المشهد سريالي فعلاً، فلماذا اختار  الجلوس في هذا المكان، حيث يبدو وكأنه يدير ظهره لكل شيء، بينما يبدو العابرون منهمكين بموبايلاتهم، يمضون مسرعين كأنهم تأخروا عن شيء ما؟. نحاول المجازفة والاقتراب من الرجل الغامض، الذي لا نعرف إن كان غاضباً أو ساهماً حزيناً، أم إنه ينتظر شيئاً ما؟ لكنه يرمقنا بذات النظرة التي يوزعها على الغرباء.. يخبرنا أحدهم بأن هذا الرجل لن يرد، مهما حاولنا الحديث إليه، ويؤكد بأنه يأتي لبرهة

من الوقت، ثم يختفي أياماً، ليظهر بعدها من جديد بلا مبرر!.

ننبش في دائرة نفوس الأشخاص المجهولين، فنحصل على صور بلا أسماء أو عناوين.. ينادينا أحد الأطفال بهلع: “لقد سرقوا حذائي.. وأنا جائع جداً”، ثم ينهمك بنزع الحصى العالقة أسفل قدميه.. نسأله من سرق حذاءه، ولماذا لم ينتبه إليه؟ فيخبرنا بأنه كان نائماً تحت الشجرة، من شدة الحرّ والتعب، فغافله السارقون واستولوا على الحذاء!. لكن قبيلة من الأطفال المستوطنين في حديقة “المنشية” وسط دمشق، تحكي تفاصيل القصة مع استنشاق لاصق “الشعلة”، الموضوع داخل أكياس النايلون!. يقول أحدهم إن أهله ماتوا في الحرب، وإن لاصق الشعلة يجعله يشعر بالانتعاش والفرح، ثم يشير إلى طفل مقعد، تركه والده في الحديقة ورحل. ويضيف بأن مجموعة الأطفال تحاول مساعدة هذا الطفل الغريب، في الحصول على الطعام، لكن تأمين وجبة “أندومي” من البسطة القريبة، أمر صعب جداً!.

أطفالٌ، لكن الحياة عركتهم أكثر من الرجال، فظهروا مؤهلين لارتكاب أي شيء، انسجاماً مع شدة الهول الذي أودى بهم إلى هنا!.

نلتقط صورةً لطفلين، عند ضفة نهر النفايات، خلف السور، بالقرب من ساحة باب توما. أخوان، يبدو الكبير يائساً تعباً، بينما الصغير يحاول مساندته بكلمات غير مفهومة، لكنه لا يرد!. هل تعملان بجمع قناني البلاستيك؟ ينظران إلينا بحذر، ويديران وجهيهما إلى الناحية الأخرى!. من أنتما؟ وماذا تعملان؟ فيرمقاننا بنظرات غريبة، كأننا نثير السخرية، بهذا السؤال!.

“دائرة نفوس المجهولين” في دمشق

دائرة نفوس الأشخاص المجهولين، تتسع. صور مكدسة في الشوارع وعند الممرات وتحت الجسور، لا يعرف أحد عنهم شيئاً. وعندما نحاول، يتجاهلنا المسنّ الذي يفترش بسطة تحت جسر الثورة، ويتابع التهام المعكرونة بأصابعه من كيس النايلون الموضوع أمامه.. يا عمّ، ماذا تبيع؟ ومن سيشتري منك هذا النوع من البضاعة؟ هل تعتقد أن زبوناً سيدفع المال من أجل “أصيص” ورد فارغ ومكسور؟.

يهز الرجل المسن رأسه، ويتابع مد يده إلى داخل كيس المعكرونة، ليتابع التهام ما يفترض أنها وجبة الغداء!. ترى ماذا يبيع أولئك الغامضون وأي زبائن ينتظرون؟ هل يقارعون الوقت واليأس بهذه الطريقة، أم ينتظرون معجزة تنتشلهم من هول كبير لا نعلم عنه شيئاً؟.

رجل مشرد

المسنون طريفون عندما يحدقون بالكاميرا. كأنهم في بدايات عصر انتشار التصوير بالأبيض والأسود.. الرجل بعكازين وسنّ واحد، بينما الجدّة تفترش الأرض على أحد أرصفة جرمانا.. “أمانة يا خالة.. أمانة..” تكررها عدة مرات، أملاً في الحصول على ما يسد الرمق، لكن هيهات أن يستطيع أحدٌ سدّ ذلك الرمق، المنهك بخذلان سنين العمر والفقر!.

دائرة نفوس الأشخاص الغامضين “المفترضة”، فارغة من الموظفين، فقط مصنفات من الصور مجهولة الأسماء، تتراكم داخل الأدراج. البعض يقول إن أولئك الأشخاص هم من أسّسوا دائرتهم تلك، كي تكون شاهداً ومرجعاً توثيقياً لقاع المدينة، التي لا يظهر منها سوى الزبد!ّ.

رجل مشرد

نعود أدراجنا باتجاه الشارع الطويل الرابط بين باب شرقي وباب الجابية.. من الأول دخل خالد بن الوليد، ومن الثاني عبر عبيدة بن الجراح، عندما فتح المسلمون دمشق، لكن رجلاً اختار النوم فوق البلاط، قرب سيارة مركونة، يبدو من عصر غير معلوم! هل يعتقد أن هذه السيارة مستقرة لن تتحرك حتى يستيقظ؟ أم أنه اعتقدها شجرة أو حائطاً، حتى يبدو مستغرقاً بالنوم إلى هذا الحدّ؟.

أشياء هذا الرجل المجهول، مدهشة جداً، “عصا غليظة، مع بدون بلاستيكي أخضر فارغ، وبساط أحمر رثّ، ومجموعة من أكياس النايلون”!. هل يعتقد أن هذا المكان “محطة” ينتظر فيها القطار؟ أم أنه منهك من كثرة السفر، فشاء أن يرتاح هنا؟.

صور الأشخاص المسجلين في “دائرة النفوس” المفترضة تلك، ترسم وجهاً مختلفاً لدمشق التي تصلنا عبر نشرات الأخبار والبرامج التي تصور سعادة المواطنين.. ترى هل جرّب أحد الغوص إلى هذا القاع، بغية اكتشاف حطام السفن والغرقى الكثيرين في “تايتنك” السورية؟.

إلى أين يعود السوريون؟

‏تستمر تحركات السكان وتجدد النزوح في سوريا. وفقا لأحدث بيانات الأمم المتحدة الصادرة عن النازحين داخليا (19 أيار 2025)، عاد أكثر من 1.14 مليون نازح داخليا إلى مناطقهم الأصلية في سوريا منذ أوائل كانون الأول 2024، مع نزوح حوالي 677,000 شخص منذ تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، منهم 462,000 نازح حديثا.‏

و‏اعتبارا من 22 مايو/أيار 2025، ‏‏تقدر‏‏ المفوضية أن 507,672 سوريا عبروا إلى سوريا عبر الدول المجاورة منذ 8 كانون الأول 2024، ليصبح المجموع 868,512 سوريا منذ بداية عام 2024.‏

‏تستمر عمليات المغادرة من مخيمات النازحين داخليا، حيث غادر نحو 400,000 شخص المخيمات في شمال غربي سوريا منذ ديسمبر 2024. وتشكل المنازل المتضررة، وعدم كفاية الخدمات، وخطر الذخائر غير المنفجرة عوائق رئيسية أمام العودة. وتمت عمليات العودة الطوعية الرابعة والخامسة من مخيم عريشة (في الحسكة) يومي 15 أيار/مايو و18 أيار/مايو، واستفادت منها 100 أسرة (526 فردا) عادت إلى مناطقها الأصلية في دير الزور. وحتى الآن، غادرت 356 أسرة (878 1 فردا) مخيم أريشا إما من خلال عمليات إعادة ميسرة من المفوضية أو منظمة ذاتيا.‏

ووفق دراسة سابقة لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث، تعرّضت 16 مدينة رئيسية تتوزع على مساحة سوريا لدمار كبير، لحق بعشرات الآلاف من المباني السكنية والمنشآت العامة والخاصة.

وذكرت الدراسة أن حلب أكبر المدن المتضررة، حيث وصل عدد المباني المدمرة فيها إلى نحو 36 ألف مبنى، تلتها الغوطة الشرقية مع 35 ألف منزل.

وجاءت في المرتبة الثالثة مدينة حمص، التي دُمر فيها نحو 14 ألف مبنى، ثم الرقة بنحو 13 ألفًا، إضافة إلى 7 آلاف مبنى في كل من حماة ودير الزور، فضلًا عن 5500 مبنى في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في ريف دمشق.

وهذه الأرقام هي على صعيد المدن أو التجمعات السكنية الكبرى، بينما لحق الدمار الكبير أيضًا بالأرياف، ما دفع منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، إلى التأكيد على أن عودة أعداد كبيرة من النازحين السوريين إلى ديارهم ستضغط على البلاد التي تعيش وضعا هشا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى