بالنسبة لبكرا لشو؟.. موت الخيال على الشاشة

يمكن تقسيم جمهور مسرحية “بالنسبة لبكرا شو؟” لزياد الرحباني التي بدأ عرضها مصورة في الصالات اللبنانية الى قسمين. الأول وهو مجايل لأعمال الرحباني الأولى، كان قد شاهد العمل عند عرضه العام 1978، أما القسم الثاني فيعرف العمل فقط من خلال الصوت وهو على كل حال يشكل العدد الأكبر منهم. يحاول القسم الأول التأكد من صحة ذاكرته، من خلال مشاهد غائمة كانت قد صورتها ليال الرحباني بكاميرا خاصة من مقاعد الجمهور. تتحول الذكريات المحفوظة الى صورة رديئة غير واضحة، لكنها تؤكد لذلك القسم من الجمهور أن ما شاهده يومها كان حقيقياً. لا بد أن العمل يضع أولئك أمام طرح أسئلة جديدة: كيف رأينا المسرحية وقتها؟ وكيف كنّا؟ من هي الشخصيات التي لفتت انتباهنا؟ ألم نبالغ بالقول أن العمل لا بد قد أعطى أجوبة عن أسباب الحرب الدائرة في بلادنا؟
يواجه القسم الثاني من الجمهور (والذي أنتمي اليه شخصيًا) إشكالية من نوع آخر. كان هذا القسم قد شاهد العمل فقط من خلال الخيال، وكان تصوره لأحداثه على الأغلب، يدور في أمكنة حقيقية (حانات شارع الحمرا) وليس على الخشبة كما رآها في العرض السينمائي. أما الشخصيات فكانت أصواتاً مترددة ننفذ الى عالمها من خلال طريقة كلامها ولهجاتها، وهي الآن تتحول الى ملامح صور حقيقية نحتار في كيفية وضعها أمام مصادر الصوت الأصلية. يقال دائما أن بإمكان الصوت أن يكون أقوى من الصورة، وبإمكانه أن يقدم تمثيلاً متصوراً في غاية الوضوح لأحداث سابقة، وطريقاً لفهم الشخصيات والنفاذ الى بعض أوجه عوالمها الداخلية. لم تكن الصورة في العرض في أفضل حالاتها لتثبت جدارة ما، وتنقل أداء الممثلين بشكل واضح، لكنها اكدت لنا أنه بإمكان الصوت أن يستغني عنها وربما أن يقدم، من خلال تحفيزه لخيال المستمع، إشباعاً أكبر وأكثر اختلافاً من تجربة المشاهدة أمام الصورة.435

من سلبيات عرض “بالنسبة لبكرا شو”، أنه أزاح جزءاً كبيراً من هذا الخيال وأعاده الى حجمه الحقيقي أي كمجرد عرض على خشبة. يضعنا هذا أمام تساؤل: هل في حال قرر الرحباني منذ البداية تصوير أعماله كانت ستأخذ كل هذا النجاح الذي حققته في الصوت فقط؟

بدا الجمهور سعيدا في العرض على الرغم من كل شيء، وردد الجمل التي تقولها الشخصيات والأغاني التي يؤديها جوزيف صقر. لا يمكن الحديث عن العمل بعيداً من تلك الزاوية الشخصية والحميمة التي يبدو أن الشركة المنتج للفيلم (m-media) استفادت منها وأعادت استثمارها. اختارت الشركة مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” كأول عمل تقوم بنقله، وسيأتي من بعدها “فيلم أميركي طويل” التي يظهر من المقتطفات التي عرضت منها، أنها مصورة بطريقة أفضل بكثير من سابقتها. يضعنا هذا أمام تساؤل عن سبب اختيار الشركة عملاً مصوراً بطريقة رديئة كأول إنتاج لها، عوضاً عن “فيلم أميركي طويل”.

يقدم الإقبال الشديد على الحجز المسبق للعروض المقبلة من المسرحية المصورة، جواباً على هذا التساؤل. فالجمهور في شغفه لرؤية أي شيء يقدم أمامه من اعمال الرحباني، لم يعد مهتماً بنوعية الصورة، طالما أنه يرى للمرة الأولى ما سمعه وتخيله لوقت طويل. يريد الجمهور البحث عن خياله ذلك وتحويله الى حقيقة، وهذا العامل الأساسي الذي استثمرته الشركة في إنتاجها والذي يبدو واضحاً من الأشرطة الدعائية التي نشرتها قبل العرض. وبعد تحقيق الجمهور اشباعه في رؤية ما تعوّد على سماعه كل تلك السنوات، ستقدم الشركة العمل الآخر “فيلم أميركي طويل” المصور بطريقة متقنة، والأكثر أهلية للتحول الى فيلم من سابقه، كما أنه، حتى كعمل مسرحي، أهم من “بالنسبة لبكرا شو” النمطية عامة في شخصياتها وموضوعها.

على أن أهمية عرض “بالنسبة لبكرا شو” تكمن في مكان آخر. فقد أتيحت للمرة الأولى رؤية ملامح من إخراج زياد الرحباني الواقعي والمميز الذي اتصفت به أعماله بين العامي 1974 و1983، وملامح من التمثيل المسرحي في تلك الحقبة، بعدما كانت مخفية كل ذلك الزمن. ويثير الإهتمام أداء الممثلين الإستثنائي، في ذلك العمل، خصوصاً أن أغلبهم لم يكن محترفاً. ويحسب هذا للرحباني بشكل أساسي، خصوصاً أننا لم نر أغلب أولئك الممثلين يقدمون أي نجاح خارج أعماله.

ومن عوامل نجاح الرحباني في تحويل أشخاص غير محترفين الى ممثلين على الخشبة، هو قدرته على وضع أولئك في مواقف شخصياتهم الأصلية. يجعل من خشبة المسرح مطعماً حقيقياً مع بار وزبائن ومرتادين لا يؤدون أي دور سوى اضفاء انطباع حقيقي على المكان. يرتاد الممثلون المكان كأنهم زبائن فعليون. يقومون باحتساء المشروب والتدخين والتحدث. تتابع الشخصيات أدوارها بشكل موازٍ وتتحدث بشكل دائم مع بعضها البعض، ولا يرتفع صوتها الا عندما يأتي دورها في الكلام. يضع الرحباني ممثليه غير المحترفين في مواقف شخصياتهم الواقعية وهم موجودون جميعا بشكل دائم على الخشبة، مع بعضهم البعض، لا يخرجون ويدخلون كل حين كما اعتدنا في أعمال مسرحية أخرى. يساهم هذا بإزالة توتر الممثل غير المحترف في أدائه، وهو طالما أنه لم يتعلم التمثيل بشكل احترافي، يكتفي بأداء دوره الحقيقي في الحياة من دون تكلّف الممثلين المحترفين في العادة.

كما أن عرض “بالنسبة لبكرا شو” كان سبيلاً الى حفظ وثيقة تؤرشف بداية تطور مسيرة الرحباني الفنية، نحو أعمال أكثر نضجاً في المستقبل، كما أنها كانت بداية لظهور مخرج مسرحي، لم يتم الإعتراف به في الأوساط الفنية لأسباب كثيرة. مخرج تخلى عن نظريات المسرح والتمثيل المسرحي بأغلبها، وقرر الركون الى البساطة في الأداء ما جعله في مكان قريب في فئات واسعة ومتعددة من الجمهور.

حسن الساحلي | المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى