
المرأة السورية المعتقلة؛ مأساة أقرب إلى الخيال!
الملخص التنفيذي:
للأسف الشديد فإنّ كثيراً من العائلات السورية تعتبر أن ما تعرضت له المرأة في سجون ومعتقلات النظام الأسدي من اغتصاب أو تحرش جنسي؛ هو عار يلازمها! فالمرأة المعتقلة رغم أنها فقدت الزوج والأب والأخ والقريب والصديق، لكن رحلة معاناتها في البحث عن مكان للسكن ومصدر للرزق وحيدة في مواجهة الحياة؛ تبدأ بعد الخروج من المعتقل؛ في ظل ما مر به المجتمع السوري من تهجير وتشرد ونزوح وشتات أثناء وجود النظام البائد بين الداخل والخارج لترمى عشرات النساء، ويتركن إلى مصير بائس ممتلئ بالألم والحرقة والقهر والعذاب لا يمكن للعقل تصوره.
تحاول هذه الورقة الحديث عما هو مسكوت عنه في المجتمع السوري من مأساة المرأة السورية التي تعرضت للاعتقال فترة حكم الأسد لنشاطها الثوري؛ أو لكونها زوجة أو أخت أو بنت أحد الناشطين الثوريين؛ ولكنْ معاناة المرأة المعتقلة لا تنتهي في المعتقل؛ وما تتعرض له من اغتصاب أو تحرش! إنما تستمر فصولها حتى بعد خروجها من المعتقل!
تحاول هذه الورقة التي أعددناها؛ وروتها لنا إحدى المعتقلات بيان ما عانته وقاسته المرأة السورية أثناء الثورة.
هذا كله نتحدث عنه من خلال المحاور التالية:
المحاور:
المدخل
مأساةُ امرأة معتقلة
مجتمعاتنا تعاقب المرأة المعتقلة
جهل المجتمع في شرقنا البائس أقسى من المعتقل!
معركة المعتقلات بالاندماج بالمجتمع من جديد
الخاتمة والتوصيات
المدخل:
وثقت التقارير الإنسانية والحقوقية مئات الاعتداءات الجنسية على المعتقلات في سجون الأسد الهارب؛ إذ وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان اعتقال أكثر من (5400) امرأة من قبل أجهزة الأمن السوري؛ ومن ضمن هذا العدد هناك (1200) طالبة جامعية ما بين آذار 2011 ونيسان 2013.
ولم يتوقف اعتقال النساء طوال عمر الثورة السورية! وقد تعرضت معظم المعتقلات إلى اعتداءات جنسية متفاوتة؛ وهو ما أكدته “سحر” التي فقدت زوجها بعد انشقاقه من صفوف النظام بأربعة أشهر، المقيمة في مدينة دمشق؛ ودفعتها خشيتها من انتقام النظام إلى محاولة الخروج بأبنائها الأربعة إلى المناطق المحررة بمساعدة أحد أصدقاء زوجها؛ إلا أن محاولتها باءت بالفشل؛ لتعتقل أثناء وجودها في كراج الانطلاق في دمشق!
مأساةُ امرأة معتقلة
تروي لنا “سحر” كيف تعرضت لأنواع التعذيب كلها من صعق بالكهرباء وشبح وعنف نفسي؛ واضطرت إلى أن تشهد جولات تعذيب لعشرات الشباب والصبايا؛ حتى فارق بعضهم الحياة أمام ناظريها، وأُجبرت على رؤية عدد من الشابات وهن يغتصبن أمامها! ولعل أكثر ما يترك أثراً في نفس “سحر” الاعتداءات الجنسية الجماعية التي تعرضت لها على أيدي عناصر الأمن من غير شفقة بها ولا رحمة، تقول سحر: إن النساء يغتصبن بالتناوب! وتجري عملية اغتصاب المعتقلة أمام بقية المعتقلات اللاتي يفرض عليهن ذلك؛ والهدف الوحيد هو الإذلال والإهانة! ولم يقتصر الأمر على اغتصاب النساء! كما تؤكد سحر أنها شهدت أكثر من عملية اغتصاب بحق رجال من المعتقلين.
وترجع الذاكرة بسحر إلى أيام المعتقل والدموع تملأ عينها والغصة تخنق صوتها؛ وتروي شيئاً من حياتها اليومية في المعتقل التي تبدأ فيها جولات التعذيب في الساعة التاسعة صباحاً وتنتهي في الساعة الخامسة، تمر خلالها سحر وزملاؤها بأنواع شتى من العذاب والاعتداء؛ ولا يكاد يمضي يوم إلا ويموت أحد من المعتقلين تحت التعذيب!
ولعل أكثر المواقف ألماً التي تذكرها سحر لزميلتها “لمى” ذات الخمسة عشر ربيعاً التي لم يتحمل جسدها الغض الطري فنون العذاب وأصناف الإجرام والاغتصاب؛ لتفارق الحياة على يد أحد الجلادين وهو يقوم باغتصابها، ولعل جسد سحر بعد خروجها من السجن كفيل بأن يشرح ما يعجز عنه لسانها؛ فالبثور وآثار الجروح التي ما زالت مطبوعة على أنحاء جسدها تزيد من معاناتها اليومية.
سحر التي خرجت من المعتقل بصفقة تبادل للأسرى مع النظام السابق؛ ظنت أنّ خروجها وما مر بها من قتل وظلم واعتداء واغتصاب؛ سيكون صفحة محفوفة بألم في ماضيها المعذب، غير أن المأساة أشد وقعاً على نفس سحر؛ بدأت من جديد إذ تخلى عنها أهلها وإخوتها بشكل كامل؛ وليس أشد على الإنسان من أن يتخلى عنه أهله! وينبذوه من غير ذنب اقترفه “فهذا ليس قدري” تقول سحر “إنما قدر مئات النساء السوريات اللواتي دفعن أبهظ الأثمان” وتضيف “عانيت كثيراً للوصول إلى أولادي في مجتمع؛ ليس أكثر رحمة من سجون النظام ومن جلاديه”.
مجتمعاتنا تعاقب المرأة المعتقلة
مأساة المرأة السورية التي تعرضت للاعتقال لم تنتهِ حال خروجها من المعتقل بل لعل الجزء الأشد سوءاً بدأ فور الخروج من المعتقل؛ فليس أشد ألماً على المرأة التي عاشت جحيم سجون الأسد؛ وخرجت؛ ولم تجد في كل من حولها من يطيّب لها خاطراً؛ أو حتى يقول لها حمداً لله على سلامتك! بل الجميع ينظر إليها وكأنها عاهرة! تحمل العار والإثم والرذيلة؛ أو كأنما هي التي اختارت أن تمضي حقبة من الزمن في أكثر الأماكن رعباً وخوفاً وقذارة على وجه الأرض (سجون الأسد).
كثير من العائلات السورية تعتبر أن ما تعرضت له المرأة في السجن من اغتصاب أو تحرش جنسي؛ هو عار يلازمها فيكون عليها أن تفقد الزوج والأب والأخ والقريب والصديق، لتبدأ رحلة المعاناة في البحث عن مكان للسكن ومصدر للرزق وحيدة في مواجهة الحياة؛ وفي ظل ما مر به المجتمع السوري أثناء الحكم الأسدي من تهجير وتشرد ونزوح وشتات بين الداخل والخارج لترمى عشرات النساء، ويتركن إلى مصير بائس ممتلئ بالألم والحرقة والقهر والعذاب لا يمكن للعقل تصوره.
كثيرات من المعتقلات اللاتي خرجن من المعتقل إما بعملية تبادل أسرى أو إخلاء سبيل؛ أو بعد سقوط النظام؛ تمنين لو أنهن قضين تحت التعذيب والاغتصاب الجنسي في المعتقلات؛ ولم يتعرضن لما تعرضن له من تخلي الأهل والأزواج والأصدقاء، وما تزال كثيرات منهن يرفضن الإفصاح عن أنفسهن خشية قمع المجتمع والعادات والتقاليد التي تبدو وليدة غياهب السجون وعلى أيدي الجلادين المغتصبين بحسب ما وصفته لنا “هناء” إحدى المعتقلات السابقات.
“مرح الزير” مرشدة نفسية تقول إن الخارج من سجون النظام يحتاج في الأحيان معظمها للخضوع إلى علاج نفسي ولمدد طولية؛ حتى يتمكن من العودة إلى حالته الطبيعة؛ لما تعرض إليه من أهوال السجون وصنوف العذاب النفسية والجسدية التي لا يمكن أن يحتملها بشر، بينما الواقع الذي تلقاه المرأة مختلف تماماً؛ بل سبب في زيادة بؤسها وعذابها؛ حتى لو كانت خالية من أي مرض؛ فحالما ينبذها أهلها ومجتمعها؛ يصبح ذلك كفيلاً بأن يقضي عليها، علاوة على ما تعرضت إليه من أشد أنواع القهر في الدنيا.
وفي دراسة لمنظمة “نقطة بداية” المهتمة بالمعتقلات أظهرت من خلال عينة من المعتقلات استهدفن أن 62% خسرن الزوج بعد الخروج من المعتقل في حين إن 18% خسرن الأصدقاء و12% خسرن الخطيب و6% خسرن الأهل؛ وحالة واحدة خسرت زميل العمل؛ لظنه أنها هي من اعترفت عليه الأجهزة الأمنية أثناء التحقيق، وهو ما وصفته “مرح الزير” بأنه قصور كبير في عقلية المجتمع وآلية تفكيره، وكذلك ما يمكن اعتباره الشبه الكبير بين الجلاد والضحية؛ وهو ما يمكن أن ينطبق على البلدان كافة التي يحكمها الاستبداد، إذ كيف يمكن للمجتمع أن يحمل المرأة التي تعرضت لشتى أنواع الاعتقال والقهر والاعتداء الذنب في ما حل بها؟ وينبذها ويتخلى عنها في أوج محنتها؟ بدل أن يسعى إلى احتوائها والعمل على تقديم الدعم اللازم لها؟ وإعادة تأهيلها في المجتمع بشكل فعلي! فلا يمكن لمجتمع صحيح سليم معافى فكرياً وعقلياً أن يحاسب الضحية على ما حل بها.
جهل المجتمع في شرقنا البائس أقسى من المعتقل!
التقاليد والأعراف التي ما زالت تنظر إلى المرأة على أنها عنصر قاصر في المجتمع على الرغم من الدور الكبير الذي أدته النساء على مدار أعوام الثورة في سوريا؛ والعقلية التي تتعامل مع قضية الاغتصاب على أن المرأة هي من يتحمل نتائجه؛ رغم أنها هي الضحية فيها؛ فقط لأنها امرأة جعلت التعاطي مع المعتقلات في بعض الحالات في المجتمع يكون بطريقة همجية؛ لا يمكن أن تتخيلها كثير من المعتقلات، فبعض العائلات رفضت استقبال بناتهن المعتقلات ونبذتهن بشكل كامل؛ وعائلات أخرى تكتمت على الأمر؛ وحاولت إبقاءه طي الكتمان بعكس ما يلقاه الرجل المعتقل عند خروجه من السجن، إذ يعامل معاملة أخرى تختلف بشكل كامل.
تقول إحدى الناجيات من الاعتقال وهي من مدينة حمص إن المحيط الأسري والاجتماعي؛ واجهها بأبشع المشاعر وجرت مقاطعتها من قبل أهلها وإخوتها؛ وحملوها ذنب الاعتقال؛ واتهموها بأنها جلبت إليهم العار؛ بعكس ابن عمها الذي كان معتقلاً أيضاً؛ وخرج في الفترة ذاتها واستقبل بالزغاريد وإطلاق الرصاص؛ وأقيمت له الحفلات وقرعت الطبول؛ وضربت الدفوف وكأنهم يستقبلون بطلاً، وهناك عدد من الأزواج الذين طلقوا زوجاتهم بعد خروجهن من المعتقل مباشرة من غير أن يلتقوهن.
معركة المعتقلات بالاندماج بالمجتمع من جديد
الناجيات من معتقلات الأسد؛ وجدن صعوبات كبيرة في العودة إلى حياتهن الاجتماعية السابقة؛ وكان تغيير مكان الإقامة والبيئة الاجتماعية في أغلب الأحيان ناتجة من الهرب من النظرة السلبية للمحيط الاجتماعي المقرب؛ وقد أظهرت نتائج الدراسة الميدانية التي قامت بها منظمة “نقطة بداية” وجود علاقة بين التغيرات التي طرأت على حياة الناجيات اليومية بعد الإفراج عنهن، ولا سيما اللواتي تعرضن للاغتصاب والعنف الجنسي في المعتقل:
كان التعرض الجنسي سبباً للانسحاب الاجتماعي لنسبة 80% من الناجيات،
وفي المقابل فقد انسحبت من الحياة الاجتماعية نسبة 74% ممن لم يتعرضن للعنف الجنسي.
وأصبح لدى نسبة 74% من المعنفات جنسياً قلق المستقبل مقابل نسبة 48% لغير المعنفات.
كما أصبح لدى 63% من المعنفات جنسياً تبدل في المزاج مقابل 61% لغير المعنفات.
وأصبحت نسبة 51% من المعنفات جنسياً أكثر اعتماداً على الذات مقابل 56% لغير المعنفات،
أصيبت نسبة 41% من المعنفات جنسياً بحالات اكتئاب مقابل 50% لغير المعنفات.
أصيب 48% من المعنفات جنسياً بإحباط من الآخرين مقابل 35% لغير المعنفات.
باتت نسبة 18% من المعنفات جنسياً أكثر جرأة في طرح الآراء مقابل 37% لغير المعنفات.
لدى 15% من المعنفات جنسياً شعور بالندية مقابل 22% لدى غير المعنفات.
ومن ثمَّ هناك معاناة كبيرة وتحديات أكبر تعيشها الناجيات من المعتقل لبدء حياة جديدة ضمن واقع اجتماعي صعب وأوضاع اقتصادية صعبة وغياب جهات دولية؛ أو مؤسسات محلية تعمل بشكل جدي وحقيقي للوقوف معهن ليظل مستقبلهن غامضاً ومشوشاً كحاضرهن البائس.
الخاتمة والتوصيات
تبقى قضية المعتقلات في سجون الأسد الهارب واحدة من المشكلات المعضلة التي تدفع ثمنها شريحة واسعة من النساء اللواتي أجبرن على أن يكن ضحية على أيدي نظام مجرم من جهة، ومن جهة أخرى ضحية للعادات والتقاليد البالية للمجتمع.
هذا يعني أنه يجب إفساح العمل لمنظمات المجتمع المدني؛ لتوعية المجتمع تجاه قضية المعتقلات من خلال نشاط متواصل وحملات توعية بوسائل الإعلام؛ بهدف تسليط الضوء على هذه المعضلة وشرحها وتقريبها إلى عقلية العائلات والأهالي الذين ما زال كثير منهم يحمل المرأة تبعة اعتقالها وتعرضها للاغتصاب على أيدي نظام الأسد، ويجب العمل جدياً على كثير من النساء اللواتي بقين خارج إطار المجتمع؛ واللواتي تعرضن للنبذ وإعادة تأهيلهن وتأمين فرص عمل لهن؛ حتى يعتمدن على أنفسهن ويخرجن من الحالة النفسية التي فرضتها الأوضاع الصعبة التي مررن بها.
وهذه مسألة مهمة وحساسة يتغافل عنها مجتمع ما بعد سقوط النظام؛ لتبقى كثير من المعتقلات يعانين الألم والحسرة والقهر؛ ولا أحد يعلم أو يشعر بمعاناتهن إلا الله!
؟
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.



