مسلسل «طهران»: الواقع أذكى من التلفزيون … راشد عيسى

لو أننا شاهدنا مسلسل الجاسوسية الإسرائيلي «طهران» عشية اندلاع الحرب الأخيرة على إيران لكنّا متنا من الضحك، سخريةً من العمل. إذ سيبدو المسلسل على قدر هائل من المبالغة فيما يصوّر إيران برمتها مستوطنة للموساد، جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، أو على وشك الانخراط فيه، بذريعة جاهزة لا تخفى: كراهية الإيرانيين لنظام الحكم في بلدهم وطغيانه.

أما بعد الحرب الجارية، فالأمر مختلف، إذ بدا نظام الملالي منخوراً ومخترقاً إلى أعمق أعماقه. فقد أذهلنا ما رأينا من تفوق إسرائيلي عسكري، أدى على الفور للقضاء على قيادات الصف العسكري الأول دفعة واحدة، إلى ضربات لمنشآت ومواقع حساسة، مع غيبوبة إيرانية شاملة، ومضى وقت لا بأس به قبل أن تستوعب إيران الصدمة وتبادر إلى الرد بهجوم متأخر، أهم ما يعلق من نتائجه في البال صاروخ قضى على عائلة عربية في بلدة طمرة قرب حيفا (لا يعني ذلك أن قوة التدمير الإسرائيلية أقل رأفة، إنها متوحشة حتى وهي عارفة طريقها). أما الباقي فهو دمار يكاد يكون عشوائياً لم نسمع حتى الساعة عن نتائج واضحة وأكيدة في مواقع إسرائيلية حساسة مقابلة. وعلى ما يبدو، لم تكن الضربة الإسرائيلية ممكنة على هذا النحو الساحق من دون تلك التوطئة الاستخباراتية المديدة والعميقة.

فريدمان.. المتفرج السعيد

كل يوم نقرأ أخباراً وسيناريوهات عن قواعد للموساد، ما يعني جواسيس بالجملة لا فرادى، فهناك جثمت الطائرات المسيّرة بانتظار ساعة الصفر، وهناك توزّعَ المتحكّمون بشبكات الكهرباء، والمقرصنون والهكرة، وربما يفسر لنا المسلسل الآن كل ما كنا نسمعه من قبل عن تعطيل لشبكة الإنترنت، وهجمات سيبرانية متتالية.
كانت المعلومات الاستخباراتية الإسرائيلية عن إيران وافرة «لدرجة أنها حددت مواقع عدد من كبار القادة والضباط العسكريين الإيرانيين وقتلتهم». على ما يقول الكاتب الأمريكي توماس فريدمان، معتبراً أننا سنجد تفسير كل ذلك في مسلسل «طهران».
ومن عجب أن يكون فريدمان قد وجد الوقت لمشاهدة المسلسل الإسرائيلي بمواسمه الثلاثة، إذ لا تنقصه بالتأكيد المعلومات والأخبار عن الصراع في المنطقة، وهو الخبير الاستثنائي بأحوالها، إلا إذا كان يخصص وقتاً للشعور بنشوة الانتصار والزهو، كيهودي أمريكي يساند تل أبيب، أمام الشاشة، قبل أن يتحقق ذلك في الواقع.
فبالنسبة لمشاهد سينمائي تلفزيوني متمرس سيبدو «طهران» مضجراً بلا حدود، أولاً لأنه من إنتاج إسرائيلي، بل يكاد يكون من إنتاج الموساد نفسه، وبالتالي فإن حبكةً تلفزيونية حَبَكها الموساد لن تفضي إلا إلى انتصاره وتفوقه. ستقول لنفسك يستحيل أن يموت البطل، المصنوع على غرار البطل الهوليودي. هل يعقل أن ينتصر رجل الاستخبارات، أو حتى المواطن الإيراني في مسلسلِ عدوِّهِ؟ هل يعقل أن يبدو الإيراني لطيفاً، كائناً طبيعياً، ابن تلك الحضارة العظيمة الضاربة في أعماق التاريخ في عمل صوّره الخصوم؟

ليس بالوسع الاستخفاف بقوة الموساد، وقد أثبت على مرّ عقود قوة يتفوق بها على أعتى عصابات المافيا، تاريخه في تعقّب واغتيال القادة الفلسطينيين لا يخفى، من عملية فردان في بيروت (1973)، باغتيال القادة الثلاثة كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار، إلى اغتيال محمود المبحوح في دبي(2010)، وإسماعيل هنية في طهران (2024)، وصولاً إلى عمليته الأخطر في بيروت مع تفجير بياجر «حزب الله» (2024)، ولكن البروباغندا هي البروباغندا، ويبدو أن حبكات الموساد الواقعية أكثر ذكاء وإحكاماً من سيناريوهات المسلسلات التلفزيونية، ولا بد أن رجال الاستخبارات الإسرائيليين يضحكون من صورتهم في المسلسل، ومن الثغرات التي تملأ جنباته، خصوصاً في مشهد وجداني لأعلى قيادي في الجهاز جالساً أمام مخطوفة إيرانية، زوجة رجل استخبارات إيراني يلقي على مسامعها أغنية رهيفة.

دراما الموساد.. البطل لا يموت

قوة الموساد في الواقع لا تعني أن بإمكان السيناريست اختراع ما يشاء، وأن على المتلقي التلفزيوني، سواء كان متقمصاً صورة البطل «الموسادي»، أم متقمصاً صورة ضحاياه، ولعلهم النسبة الأكبر من المشاهدين، تصديق أي ذريعة أو أكذوبة تلفزيونية.
هناك أشياء عسيرة الهضم، من بينها ترك زوجة رجل استخبارات مهم تسافر لوحدها لإجراء عملية لاستئصال أورام دماغية في باريس، لتصبح بعد قليل عرضة للخطف والمقايضة من رجال الموساد. أو حين يُكشَف عن موظفة كبيرة في الموساد عميلة للإيرانيين من دون أي تلميح سابق أو تمهيد.
وعلى هذا المنوال هناك عدد كبير من الذرائع والترقيعات التي لا تصدق. من بينها صورة المعارضين والمتظاهرين الإيرانيين المطالبين بالحرية في بلدهم، وكيف جعلهم المسلسل متعاطي وتجار مخدرات ومزوّرين وجاهزين للتعامل أو التواطؤ مع الموساد. نحسب أن المسلسل شكّل أكبر إساءة للشبان والشابات الإيرانيين الذين بدوا وكأنهم يدعون في احتجاجاتهم إلى الانحلال والفجور.
لا يصلح المسلسل كنبوءة بالأحداث الراهنة، هذا ما يريد أن يصوره بعض الإعلام العربي المذهول بسيناريو كان تحت أنف الإيرانيين غير المنتبهين. فالمعركة الاستخباراتية المتبادلة مستمرة منذ عقود، ولها فصول ووقائع، ومن المستحيل ألا يكون الإيرانيون غير عارفين باحتمالات توغل الموساد، خصوصاً بعد بيجر «حزب الله» واغتيال هنية في عقر دارهم، تماماً كما كان النظام الأسدي يعرف أنه مخترق حتى النخاع، حتى لو لم يعرف وقائع الاختراق بالتحديد، وذلك بحكم معرفته لحجم جرائمه بحق شعبه، وبلاده غير المحصنة بالعدل والديمقراطية، بل البلاد التي أفسدت عن عمد في كل مفاصلها.

الأرجح أن الإيرانيين، حائكي السجاد البارعين، كانوا يعوّلون على السياسة، ما زالوا يحللون التصريحات الأمريكية والغربية عن إخلاء سفارات ومراكز غربية في المنطقة على أنها مجرد ضغوط في المفاوضات الجارية في عُمان.
كان المغني (والوقائع) يقول لهم طوال الوقت: «يا شيخ عباءتك بالنار»، وهم (الإيرانيون) يُطيّبون ويردّدون مع المغني: «إيه بالنار، بالنار»، إلى أن بلغت النار قلب النظام.
إما إشارة فريدمان لمسلسل «طهران» كسبيل لمعرفةِ ما يجري في إيران فليست سوى إعلانٍ ترويجيّ للمسلسل الرديء، إذا أحسنّا النوايا، وإذا لم «نحسن»، فلعلّها واحدة من طرق إكراه المتفرجين، وكافة أبناء المنطقة، تطويعهم وإخضاعهم أمام قدر اسمه الموساد.

؟

* كاتب من أسرة «القدس العربي»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى