إدلب : الفقر يجبر النساء على مواجهة المجهول خلف الأبواب المغلقة

لم تعد شوارع إدلب وحدها مسرحاً للفقر، فالمأساة باتت الآن تطرق الأبواب مباشرة. في ظاهرة جديدة ومقلقة، تتنقل نساء بين أزقة المدينة وريفها، لا لزيارة قريب أو صديق، بل ليقفن أمام أبواب لا يعرفن من خلفها، حاملاتٍ قصصاً مثقلة بالوجع، على أمل أن تُفتح لهن الأبواب والقلوب.
لم يعد التسول مجرد يدٍ ممدودة في شارع عام، بل تحول إلى “طرْقة باب” مدروسة. هؤلاء النسوة، اللواتي قد تبدو هيئتهن لائقة أحياناً، يطرقن الباب ويطلقن العنان لرواية منسوجة بعناية: طفل مريض يحتاج علاجاً، زوج شهيد ترك أيتاماً، أو ببساطة، فراغ قاتل في خزانة المطبخ.
تقول “أم محمد” من ريف إدلب، وهي تسترجع زيارة إحدى هؤلاء النسوة: “كانت تتحدث عن ابنتها المريضة، وبدا الصدق في عينيها. لكنني اكتشفت لاحقاً أن القصة تتغير من باب إلى باب. هل كانت تكذب؟ أم أن وجعها أكبر من قصة واحدة؟ لم أعد أعرف”.
هذا الأسلوب الجديد يضع ربات البيوت في مواجهة مباشرة مع المعاناة. لم يعد بإمكانهن تجاهل المشهد بمجرد إغلاق نافذة السيارة. الآن، الفقر يقف على عتباتهن، يطرق أبوابهن، ويجبرهن على اتخاذ قرار: هل يصدقن القصة ويقدمن المساعدة، أم يغلقن الباب خوفاً من المجهول؟
هذه الظاهرة لا تخلق فقط حيرة لدى صاحبات المنازل، بل هي رحلة محفوفة بالمخاطر للنساء أنفسهن. فكل باب مغلق قد يفتح على خطر غير متوقع، من استغلال أو تحرش أو حتى عنف. إنهن يضعن أنفسهن في مواقف ضعف قصوى، مدفوعات بقوة أكبر من الخوف: قوة الجوع وحاجة أطفالهن.
في المقابل، ينمو جدار من الحذر لدى الأهالي. ففي ظل غياب الأمان، أصبح فتح الباب لغريب مغامرة. وهكذا، تجد العائلات نفسها ممزقة بين واجب المساعدة الإنسانية وضرورة حماية أمنها الخاص.
اقتصاد منهار وكرامة مهدورة
يؤكد المراقبون أن هذه ليست مجرد ظاهرة اجتماعية عابرة، بل هي مؤشر خطير على انهيار شبكة الأمان الاقتصادي والاجتماعي. إنها النتيجة الحتمية لسنوات من الحرب التي دمرت فرص العمل، وتركت آلاف الأسر، خاصة تلك التي تعيلها نساء، بلا أي مصدر دخل.
الحل لا يكمن في لوم السائل أو المشكك، بل في بناء جسور الثقة من جديد. جسور تبدأ بتوفير فرص عمل حقيقية، وتفعيل دور المؤسسات الخيرية بشكل منظم وشفاف، وتقديم دعم مستدام يعيد لهذه الأسر كرامتها، ويجعل “طرقة الباب” ذكرى من زمن صعب، لا واقعاً يومياً مؤلماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى