
“التجهيز الأولى” في دمشق: كيف حوّل نظام الأسد أعرق مدارس سوريا إلى سجن صامت؟
لم تكن الأبواب الحديدية السميكة والجدران الإسمنتية التي ظهرت خلال أعمال ترميم مدرسة جودت الهاشمي (التجهيز الأولى) مجرد علامات على الإهمال، بل كانت دليلاً مادياً على تحويل أجزاء من هذا الصرح التعليمي التاريخي إلى ما يشبه معتقلاً مصغراً ومقراً أمنياً محصناً في قلب العاصمة دمشق.
الاكتشافات التي وصفها القائمون على الترميم بـ”الصادمة” كشفت عن واقع مرير كان مخفياً لسنوات طويلة. فخلف الواجهة التعليمية للمدرسة التي خرّجت أجيالاً من رواد سوريا، كانت هناك بنية تحتية أمنية متكاملة تعمل بصمت، وتستولي على مساحات حيوية من المفترض أن تكون مخصصة للطلاب.
“شعرت وكأنني داخل سجن”
هذه العبارة التي قالها المهندس المشرف على الترميم، ناظم الحكيم، تلخص هول ما تم اكتشافه. فواصل وأبواب حديدية لا مبرر لوجودها كانت تقطّع أوصال الممرات والقاعات، وتفصل أجزاءً من المدرسة عن بعضها، مما خلق شعوراً بالوجود داخل منشأة عقابية لا مؤسسة تربوية.
غرف عمليات واتصالات سرية
الأدلة الأكثر خطورة تمثلت في العثور على غرفتين محصنتين بصفائح حديدية، ومعزولتين تماماً عن محيطهما المدرسي. إحدى هاتين الغرفتين كانت عبارة عن قاعة اجتماعات مجهزة بشبكة هواتف خاصة تربطها مباشرة بقيادات أمنية وعسكرية عليا، منها قيادة المنطقة الجنوبية وقيادة شرطة دمشق. هذا الاكتشاف يؤكد أن المدرسة لم تكن مجرد مكان مهمل، بل كانت مقراً لعمليات أمنية تدار من داخلها.
أما الغرفة الثانية، فكانت مجهزة وكأنها استراحة لكبار الضباط، تحتوي على أسرّة وخزائن وأجهزة تكييف، مما يطرح تساؤلات حول طبيعة الأنشطة التي كانت تجري في هذا المكان الذي كان من المفترض أن يكون مكتبة أو مختبراً للطلاب.
مرافق طلابية مطمورة ومخفية
لم يقتصر الأمر على بناء المقرات الأمنية، بل تعداه إلى طمس المرافق المخصصة للطلاب. فقد تم اكتشاف دورات مياه كاملة كانت مخفية عمداً خلف جدار من الطوب الإسمنتي، ومحشوة بالأنقاض والمقاعد المكسورة. هذا الإخفاء الممنهج حرم الطلاب من أبسط حقوقهم، وحوّل مساحاتهم إلى مكبات للنفايات لصالح التوسع الأمني.
إن تحويل ما يقارب 40% من مساحة أعرق مدارس دمشق إلى بنية أمنية وسجنية، يكشف عن منهجية نظام الأسد في عسكرة الفضاء العام وتوظيف كل شيء، حتى المدارس، لخدمة قبضته الأمنية، مما يترك جرحاً عميقاً في ذاكرة التعليم في سوريا.



