تحديات قاتلة بالفضاء الرقمي: أطفالنا في خطر

في حادثة صادمة وقعت قبل نحو شهر، توفي صانع محتوى فرنسي يُعرف باسم “جان بورمانوف” أو “جي بي” أثناء بث مباشر، بعد مشاركته في تحدٍّ خطير أطلقه زملاؤه. أظهرت المقاطع تعرّضه للعنف والإساءة على الهواء، مما دفع النيابة العامة في مدينة نيس إلى فتح تحقيق جنائي في ملابسات الوفاة.

هذه الحادثة لم تكن الأولى، وقد لن تكون الأخيرة. على مدار السنوات الماضية، شهدت المنصات الرقمية الكثير من الانتهاكات التي تندرج تحت مسمّى الجرائم، بما فيها جرائم قتل حدثت مباشرة على الهواء. فاليوم، لم يعد الجمهور مجرّد متلقٍ، بل بات مشاركاً فاعلاً وصانعاً للمحتوى، أيّاً كان شكله، في سبيل نيل الشهرة والمال، على حساب المبادئ الإنسانية، القانون، وحتى السلامة الجسدية والنفسية.

تدق تلك الحوادث جرس الإنذار، وتطرح عدة اسئلة: هل باتت الشهرة مبرراً كافياً للمخاطرة بالحياة؟ وهل أصبحت المنصات الرقمية بيئة حاضنة للموت العلني مقابل “لايكات” لا تحمل أي قيمة حقيقية سوى تضخيم الأرقام؟

لبنان ليس بعيداً عن الظاهرة

المخاطر لم تعد محصورة بالدول الغربية أو المجتمعات التي تتعامل بكثافة مع التكنولوجيا. في لبنان، سجلت في السنوات الأخيرة حوادث مؤلمة تؤكد أن هذه الظاهرة وصلت بالفعل إلى البلاد.

في مطلع عام 2025، توفي الطفل جو سكاف، البالغ من العمر 12 عاماً، داخل مدرسته في منطقة كسروان، بعدما شارك في تحدي “One Bite” الذي يقضي بابتلاع كمية كبيرة من الطعام دفعة واحدة دون مضغ. هذا “اللعب القاتل” تسبب باختناقه ووفاته على الفور، رغم محاولة الفرق الطبية إنقاذه.

وفي عام 2023، توفي الطفل محمد اسطنبولي (7 سنوات) في منطقة صور، إثر تعرضه لصدمة عصبية شديدة أثناء تصوير مقطع فيديو لمجموعة من الأشخاص ينفذون تحدياً على “تيك توك”. محمد لم يكن جزءاً من الفيديو، بل كان متفرجاً، لكن ما شاهده سبّب له سكتة قلبية أودت بحياته. هذه الحوادث ليست استثناءات، بل جزء من نمط آخذ في التصاعد.

اختبارات الموت

تنتشر على منصات مثل “تيك توك”، “كيك”، و”إنستغرام”، تحديات تبدو في ظاهرها ألعاباً ترفيهية، لكنها في حقيقتها اختبارات خطيرة للحياة. من بينها، تحدي الاختناق (Blackout Challenge)،  حيث يُطلب من المشارك قطع تنفّسه حتى فقدان الوعي، بهدف الإحساس بـ”نشوة” معينة. يُضاف ذلك الى تحدي القفز من أماكن مرتفعة، تحت عنوان “الاستعراض”، لكن انتهى بكوارث جسدية وعاهات دائمة لبعض المراهقين، فضلاً عن تحدي ابتلاع مواد خطرة، كأقراص المنظفات أو المساحيق الكيميائية، مما أدى إلى حالات تسمم حاد، اإلى جانب انتشار تحديات القيادة المتهورة، مثل القيادة مغمض العينين أو بسرعة جنونية، وأدت إلى حوادث سير قاتلة.في هذا الفضاء، يبدو أن الخط الفاصل بين اللعب والموت بات رقيقاً.

الجمهور المدمن: التغذية على العنف

أحد التحولات المقلقة في الثقافة الرقمية هو تحوّل الجمهور من متابع سلبي إلى مستهلك نهم للعنف والإثارة. يقول أحد المحللين النفسيين لـ”المدن”، إن “الجمهور بات يتغذى على العنف. مشاهد الألم والموت، أصبحا مادة مثيرة تجذب الانتباه، وتخلق شعوراً بالإثارة والتوتر. هذه الدينامية تجعل المستخدمين يتنافسون على إنتاج محتوى أكثر خطورة، بهدف الحصول على مزيد من المشاهدات والتفاعل، ما يضعهم في دائرة إدمان على المخاطرة.”

المراهقون تحديداً، بحسب الأخصائيين، هم الأكثر تأثراً بهذه الدوامة، نتيجة هشاشتهم النفسية، وحاجتهم المستمرة للشعور بالقبول والاهتمام. المنصات الرقمية تستغل ذلك عبر خوارزميات تدفع بالمحتوى المثير والجدلي إلى الواجهة، وتكافئ منشئيه عبر المزيد من الوصول والمكافآت المادية.

المنصات: سياسة الربح فوق كل اعتبار

مدير برنامج الإعلام في منظمة “سمكس”، عبد قطايا، يوضح أن “المنصات الرقمية لا تضع ضوابط حقيقية تمنع انتشار المحتوى العنيف أو الخطير، بل تكتفي بسياسات عامة غير ملزمة، وتلقي باللوم على صعوبة مراقبة الكمّ الهائل من المحتوى”. 

ويضيف: “الشركات الرقمية تحقق أرباحاً ضخمة من المحتوى المثير للجدل، حتى لو كان مؤذياً أو قاتلاً. تعطي نسب أرباح عالية لصانعي المحتوى الذين يجذبون المشاهدات، وهذا يشجع على إنتاج المزيد من الفيديوهات الخطرة، وبالتالي تستمر دورة العنف.”

تقارير عدة، أبرزها من موظفين سابقين في “فايسبوك” و”تيك توك”، أظهرت أن هذه المنصات كانت على علم بالمخاطر الناتجة عن محتواها، لكنها اختارت التزام الصمت حفاظاً على التفاعل والإيرادات الإعلانية.

.

.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى