7 أيام من الرعب بعيني لاجئة مسلمة في أميركا .. منى شلبي
الإثنين 23 يناير/ كانون الثاني 2017
عندما نفدت بكرة المناديل الورقية في الحمام صباح اليوم، وقفتُ أحملق في رفّ مرآة المغسلة برهة من الزمن. لم يتبق سوى 3 كرارات. ترى كم كراراً جديداً يتوجب عليَّ شراؤه؟ سؤال صعب جفَّ له حلقي. وقفت عارية هامدة أحملق في البكرات المتبقية وأسائل نفسي: كم من الوقت سأبقى في أميركا؟
هذه الشقة المستأجرة هي أول بيت شعرت بأنه ملكي وحدي. ملأته بشتى الأشياء كأني أم لـ5 أطفال؛ ترى أرفف الحمام زاخرة بقوارير الشامبو الزائدة وشيفرات الحلاقة وفرش الأسنان والواقيات الذكرية ومستحضرات الكريمات المرطبة ومبارد الأظافر وعلب الـTylenol خافض الألم والحرارة، وكريمات الوقاية من أشعة الشمس بشتى تدرجات قوتها، ومزيلات العرق. وبطبيعة الحال، يكون لدي الكثير والكثير من كرارات مناديل الحمام الورقية الزائدة؛ لكنني في وقت ما من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2016 توقفت عن التزود بها؛ لكي أستثمر نقودي في شيء آخر: مستقبلي هنا.
كل شيء رهن الإيقاف. مثلاً، لم أحدّث خدمة الواي-فاي خاصتي رغم أن شركة Spectrum التي تزودني بالإنترنت نبهتني مراراً وتكراراً إلى ضرورة التحديث؛ كما لم أخرج ثانية لمواعدة ذلك الشاب اللطيف؛ وكذلك لم أحجز لنفسي موعداً عند الطبيب لأفهم سبب ذلك الوجع المزمن في بطني الذي يلاحقني منذ أشهر. لماذا آخذ موعداً وما العبرة؟ فكل ما سيفعلونه لي هو إعطائي موعد مقابلة ثانية مستقبلاً، وتراني أين سأكون وقتها؟
لم أبُحْ بمكنون هذه المشاعر لأي من أصدقائي الأميركيين المولودين في أميركا، فلو فعلت لاضطررت إلى التحديق في وجوههم كي ألمح تعبير وجههم ولسان حالهم يقول: “ليست مشكلة كبرى، لك ببساطة أن تغادري”. ففي أعماقي، يساورني شعور بأنه حتى أصدقائي الليبراليون المتحررون لا يعتقدون حقاً أن للمهاجرين حقوقاً متساوية مع المواطنين للعيش والعمل هنا.
في شهر ديسمبر/كانون الأول، كنت في حفل نظمته بمناسبة الأعياد شركةُ التليفزيون التي أعمل باحثة فيها. وقتها، قال أحد المديرين التنفيذيين إنه غاضب ومستاء من فوز ترامب بالانتخابات، فقلت له بدوري إنني لست غاضبة؛ بل مرعوبة، فما كان منه إلا أن وضع ذراعه على كتفي وقال: “اسمعي، لك كل الحق أن تشعري بالبارانويا” فوقعت كلمته الأخيرة عليَّ كالصاعقة كأنها لطمة صفعتني على خدي! فالبارانويا خوف مبالغ فيه في غير محله يشعر به المصابون بجنون العظمة، فيعتقدون أنهم هم المعنيون والمستهدفون، فيما الأمر في الواقع ليس كذلك. رسمت على وجهي ابتسامة، فيما أنا من الداخل بركان يغلي.
بت أشعر بالوحدة مؤخراً، فالعالم يغدو موحشاً عندما لا يبدو أن أحداً يراك أو يسمعك. ألم يسمع أحد ما قاله ترامب عن المسلمين؟ أم هل تراهم نسوا؟ هل ظنوه يمزح؟
في نوفمبر 2015، قال ترامب: “علينا مراقبة المساجد وإبقاؤها تحت أعين المراقبة”، ثم بعد 4 أيام سئل إن كان سيتوجب على الأميركان المسلمين، إلزاماً، التسجيلُ في قاعدة بيانات خاصة، فأجاب: “قطعاً، سأعمل على تنفيذ ذلك، بكل تأكيد… وينبغي استحداث أنظمة كثيرة تذهب إلى ما هو أبعد من قواعد البيانات”. ثم مر شهرٌ ليعود من جديد منادياً بـ”حظر تام وكامل لدخول المسلمين إلى الولايات المتحدة”.
بعثت لصديقتي برسالة نصية قائلة لها إني خائفة، فأجابت “لكنك لست مسلمة”؛ لأنها تراني أشرب الخمر وأدخن وأمارس الجنس ولا أرتدي الحجاب. لكنني في الحقيقة أحترم هذه القوانين، فقد تربيت على اتباعها، وكل فرد في عائلتي يتبعها (ومع ذلك، يحبونني رغم أني لا أطبقها). على ما يبدو، إن هذا معناه أننا نكره نمط الحياة الأميركية.
يبدو أن حياتي الآن معلقة على صدور قرارٍ رسمي وعلى تاريخ صدور هذا القرار. وبناء عليه، فالأحرف المكتوبة في نص القرار هي التي ستقرر؛ هل سأرى ابنة عمي أم لا؟ هي تنازع الموت من مرض السرطان وقد أردت توديعها؛ كذلك لعلي سأضطر إلى الاختيار بين حياتي المهنية ورؤية أمي للسنوات الـ4 المقبلة على الأقل.
الثلاثاء 24 يناير
آلام معدتي تذبحني فيما أنا جالسة منكبة على مكتبي. أمسك بشحم بطني وأضغطه علّ الألم يزول؛ ثم لا أرى بداً من حجز موعد مع طبيب على موقع Zocdoc، في أول مرة أستخدم فيها تأميني الصحي المعقد. تناولت حبة Advil مخفف الآلام، ثم مضيت في قراءة الأخبار دون اكتراث بعملي وإنتاجيتي.
لقد وقَّع ترامب مرسومين رئاسيين لإعادة إحياء مشاريع أنابيب ضخ نفط ضخمة. هو خبر صاعق للأميركيين من السكان الأصليين مثلما هو صاعق لكل من يهتم بالبيئة، لكني أشعر بالذنب، فيما أتنفس الصعداء ارتياحاً؛ لأن ترامب لم يتجه صوبي بعد.
بعد ساعات العمل، أقف انا وزميلة لي في العمل لنلقي محاضرة حول مسلسل وثائقي كنا قد صنعناه معاً؛ توثقت عرى صداقتنا بين ليالي السهر في المكتب ورحلات التصوير في ربوع أميركا. أرغب في العمل معها ثانية، ولا بد لي أن أبقى في أميركا كي أقوم بذلك. ومعدتي ما زالت تؤلمني.
الأربعاء 25 يناير
من المتوقع أن يصدر ترامب قرار حظر اللاجئين اليوم، لذا أجمع البيانات كي يستخدمها المراسلون والصحفيون؛ تظهر البيانات أن الولايات المتحدة لا تقبل سوى بأعداد متناهية في الصغر مقارنة بحجمها الكبير وأن اللاجئين لا يشكلون خطراً أمنياً على الأميركيين، وأن اللاجئين عادة يأتون من بلدان كانت الولايات المتحدة قد خاضت فيها حروباً (ولدي أقرباء أُخرجوا من ديارهم بسبب سياسة أميركا الخارجية).
ولكن في أثناء مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، يتضح أن قرار حظر اللاجئين لن يتم اليوم؛ بل كان المستهدف اليوم مجموعات أخرى، فصدرت مراسيم رئاسية جديدة؛ منها ذاك الذي يقضي ببناء جدار عازل بين أميركا والمكسيك.
الليلة ثمة احتجاجات. أردت الخروج والانضمام؛ فأنا لم أخرج في مظاهرة منذ أيامي في واشنطن العاصمة، لكن كان عندي اجتماع متأخر ليلاً ولم يكن بوسعي التخلص منه. سار الأمر على ما يرام، فقد قررنا في الاجتماع العمل على مشروع رسومات معاً، وساورني شعور بالإثارة أرعبني؛ لأن هذه الفرصة هي في أميركا، لا في “وطني”؛ بل هي هنا. شعرت بالسوء، لكني ذكّرت نفسي بأني لست مضطرة لأخاف الرصاص والقنابل حينما أنتقل من مكان لآخر، بيد أن الأمر كذلك للآخرين.
الخميس 26 يناير
أذهب لزيارة الطبيبة. تسألني كيف أشعر، فأصف لها ثم تنهمر الدموع من عينيَّ. كلتانا تتجاهل هذه الدموع وتكمل كأن شيئاً لم يكن.
تأتي الممرضة لتأخذ مني عينة دم، فتشمر لي أكمامي بلطف ثم تقرص عرقي وتقول “هذا جيد”. ثم لكي تشتت أفكاري بعيداً عن الإبرة تسألني: “تعجبني لكْنتُك. من أين أنت؟”.
بعد موعد الطبيب، أتناول الغداء مع صديقة لي، فتقول لي: “وضعي مثلك”، فهي الأخرى يمكن وصفها بتلك الكلمة القذرة القميئة المكونة من 5 أحرف “عربية”. لكنها شقراء بطبيعتها، كما أنها مواطنة أميركية حاصلة على الجنسية. تقول لي: “لا تقلقي. سأتزوجك”.
الجمعة 27 يناير
الساعة 4:42 عصراً. ترامب يوقع على ورقة تحظر دخول الولايات المتحدة لمدة 120 يوماً على اللاجئين بشكل عام، ولمدة 90 يوماً بشكل خاص على مواطني إيران والعراق وليبيا والصومال والسودان وسوريا واليمن.
السبت 28 يناير
كأن هاتفي قنبلة موقوتة ترن كل حين لتُعلمني بأحدث المستجدات والأخبار المريعة. المرسوم الرئاسي يشمل حملة الغرين كارد (الإقامة الأميركية لغير المواطنين)، وحتى المواطنون البريطانيون الذين لديهم جوازات سفر من بلدان أخرى نالهم نصيب من هذا القرار. العديدون محتجزون في المطارات وتُكبل أيديهم وتفتش أجهزتهم الإلكترونية؛ لأنهم من مواليد المكان الخطأ.
تردني رسالة نصية من صديقي C يقول فيها: “سنة 2017 كالخراء”. ثم رسالة أخرى منه تردني فوراً بعدها يقول فيها: “ليلة البارحة كنت في أسوأ موعد غرامي في حياتي”.
أفكر جدياً في حذف كل تغريداتي التي تأتي على ذكر ترامب. أتصفح تاريخي لأرى هل تلفظت بشيء سلبي. لا يبدو تاريخي عظيماً، ولعل موظفاً ما في إدارة الهجرة قد يرى أن تغريدة ما من 140 حرفاً قد تعني حرماني من العودة إلى بيتي والنوم في سريري.
9:25 مساء، يردني تنبيه على هاتفي يقول: “قاضٍ فيدرالي يُوقف مؤقتاً ترحيل اللاجئين عملاً بحظر ترامب على السفر”.
أشعر بأني لا أستطيع مغالبة 4 أيام أخرى، فكيف بـ4 سنوات!
الأحد 29 يناير
10:13 صباحاً، أتصل بأفضل صديقاتي التي غادرت نيويورك العام الماضي كي تعيش في سويسرا. ما تفتأ تقول لي: “يا عسل”، و”كم أشعر بالأسف!”، وتلفظ اسمي مع إضافة “-جون” إلى نهايته، فهذه طريقة إيرانية في تدليع اسم شخص ما كأنك تقول له “حبّوبي”.
1:42 مساء، أتصل بصديقي السابق لأسأله هل يلملم شقتي إن لم يتسنَّ لي البقاء في البلاد. أشعر بالخزي، لكنه الشخص الوحيد الذي أشعر بأن في وسعي طلب شيء كهذا منه. لكنه لا يرد.
الساعة 2 ظهراً، أتناول شطيرة وأحدق من النافذة في شارعي.
3:41 عصراً، يردني الجواب من صديقي السابق يقول في رسالته: “لا تفكري في شيء يا مونا، فطبعاً سأساعد إن وصلت الأمور إلى هنا. ورجاء، لا تعتذري لي؛ فأنا أشعر بالأسف إن كنت تشعرين بضرورة التأسف. رجاء أعلميني بما بوسعي فعله للمساعدة، وسأكون هناك”.
لا أكلف خاطري أن أتوقف عن البكاء، ثم أنهض وأغسل وجهي وأنطلق لشراء بعض بكرات المناديل الورقية للحمام.