أخطر السرديات.. لبنان “المسيحي” وسوريا “السنّية” … منير الربيع

إن من أخطر السرديات التي يجري تقديمها اليوم في لبنان وسوريا، هي سردية “لبنان المسيحي وسوريا السنية”. على الرغم من عدم تقديم هذه السردية على نحوٍ رسمي، لكن الانقسام القائم في البلدين وحولهما، يبرز هذه النوازع، التي تنجم عن عوامل كثيرة.

فاللبنانيون لا يحتاجون إلى كثير عناء حتى يظهروا فيه حجم انقساماتهم ذات البعد المذهبي والطائفي، وصولاً إلى حدّ اعتماد مبدأ التمييز الجغرافي أو الاجتماعي والاقتصادي، على قاعدة “ما بيشبهونا” وعلى قاعدة رفض تخصيص الدولة اللبنانية من ميزانيتها مبلغ 200 مليون دولار لإعادة إعمار المناطق المتضررة من جراء الحرب الإسرائيلية الأخيرة، باعتبار أن المعترضين يحملون حزب الله مسؤولية هذه الحرب ولا يجب أن يتحمل اللبنانيون أعباءها. حتى في ظل التخوف اللبناني من اندلاع حرب إسرائيلية جديدة، هناك من يذهب إلى إطلاق نظرية “كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية”، وذلك لتكريس العزل والانقسام. 

هذا النوع من السردية، يتقدم في الأوساط الاجتماعية والسياسية، وله أبعاد كثيرة مثل إعادة طرح البحث في التركيبة السياسية اللبنانية، إما على قاعدة الفيدرالية أو التقسيم للفصل بين “لبنانين لا يشبهان بعضهما بعضاً”. وذلك لا ينفصل عن نزعة أخرى تشير إلى ضرورة استعادة المسيحيين لصلاحياتهم التي “سلبها” المسلمون منهم في اتفاق الطائف. بينما السعي يتركز على كيفية استعادة هذه الصلاحيات وتأمين الضمانات اللازمة للمسيحيين. لا تتوقف السردية عند هذا الحد، بل تأخذ مجالاً أبعد في البناء على زيارة البابا لاوون إلى لبنان ولو بتفسير مغاير للمواقف التي أطلقها البابا مع التأكيد أن الفاتيكان يشدد في كل مواقفه ومجامعه على أهمية بقاء المسيحيين في أراضيهم واندماجهم بمجتمعاتهم. 

يذهب البعض أبعد من ذلك إلى حدّ الإشارة إلى الكثير من “المسيحيين” في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأن هؤلاء لن يسمحوا للبنان المسيحي بالسقوط. علماً أن هذا المنطق من شأنه أن يسقط لبنان في شرر متطاير، إذ تتغذى فيه نزعات طائفية ومذهبية صدامية، أو متقاتلة فيما بينها حول من يمتلك حصة التأثير الأكبر في البلاد، كما أنها ستدفع مجموعات أخرى إلى الذهاب والبحث عن بدائل، عبر إعادة إحياء أنماط تفكير طاعنة في التاريخ، وربما تعود إلى لحظة ما قبل تأسيس لبنان الكبير، عندما أريد لطرابلس أن تكون “طرابلس الشام” وكذلك للبقاع، بمعنى عدم موافقة المسلمين على الاندماج في هذا الكيان الوليد. أما الأخطر من كل ذلك، هو تربص إسرائيل في كل دول المنطقة، وخصوصاً لبنان كما سوريا، لما فيهما من تنوع اجتماعي، ديني، طائفي، مذهبي، قومي وعرقي. 

لذا فإن أي انقسام أو صراع من هذا النوع، من شأنه أن يخدم الرؤية الإسرائيلية الساعية إلى تفتيت المنطقة ومنع قيام أي دولة متنوعة والحفاظ على وحدتها. وذلك يؤدي إلى المزيد من التشظيات بما يدفع السنة إلى البحث عن بديل سني قد يجدونه في سوريا، والشيعة بالبقاء في حاجة إلى الكنف الإيراني، بينما يعتبر المسيحيون أنفسهم أنهم أعادوا إقامة دولتهم المنشودة برعاية غربية. 

السردية الخطرة لبنانياً، لها ما يقابلها في سوريا أيضاً، منذ بروز فكرة “من يحرر يقرر”، أو اعتبار أن الأكثرية السنية استعادت الحكم، بعد غبن بحقها استمر سنوات بفعل “سيطرة الأقليات” على نظام الحكم، وهو ما رعته ومكنته موازين قوى إقليمية ودولية. وتوغل السردية الجديدة بعيداً إلى حدود استعادة اجتماعية للدولة الأموية، أو لوصف السنة في سوريا بأنهم بنو أمية، من شأنه أن ينعكس تشظياً لدى القوى الاجتماعية المختلفة، من دون إغفال “التنازع التاريخي” بين أهل الريف وأهل المدن في سوريا، بمعزل عن الانتماء الطائفي أو المذهبي. 

سطوة هذه السردية، من شأنها تهديد سوريا الجديدة، ودفعها بعيداً عما يحلم به السوريون في إعادة بناء وتشكيل دولتهم القادرة على استعادة دورها على مستوى المنطقة، وهنا أيضاً لا يمكن إغفال العامل الإسرائيلي الساعي إلى الاستثمار بأي صراعات من شأنها أن تسهم في تدمير “الدولة الوطنية” وإقامة دويلات أو كيانات ذاتية على أسس دينية أو قومية، مع استخدام لغة “حماية الأقليات” علماً أن حماية كل مكونات المجتمع تكمن في احتضان الدولة لجميع أبنائها وممارسة حقهم السياسي داخل مؤسساتها وأطرها. 

في حال استمرت هذه السردية في البلدين، ستكون أحد عناصر تفجيرهما من الداخل، لا سيما في ظل تباعد الخيارات والاتجاهات والرؤى السياسية بين القوى الاجتماعية المختلفة. فمثلاً بعض الأطراف في لبنان يعتبرون أن أي حرب إسرائيلية ستصب في صالحهم من خلال إضعاف حزب الله، وقد تدفعهم للإعلان عن الفصل بين جغرافيا البلدين. وفي سوريا، قوى كثيرة إما بعضها يراهن على إسرائيل أو غيرها لإقامة كيان ذاتي أو لإضعاف دمشق ومركزيتها. وفي البلدين تكمن مسؤولية الحفاظ على الدولة الوطنية ومفهومها على عاتق السلطة ومبادرتها وآلية عملها. 

عملياً، تتشابه الأخطار التي تحدق بكل من لبنان وسوريا. سواء بالمعنى الداخلي أو بما يتعلق بالاعتداءات والمخططات الإسرائيلية. من هنا يُفترض بالمسؤولين لدى البلدين التيقظ للتحديات المشتركة والتي توجب تعاوناً بينهما تحكمه الجغرافيا السياسية، والتي تفرض تنسيقاً وتعاوناً إيجابياً، بعيداً من النزعات القديمة التي تتحكم بالجانبين، فلا يجوز خوف اللبناني من “انضمام لبنان إلى سوريا” لأن ذلك غير ممكن ومستحيل، ولا يمكن لسوريا أن تفكر بعودة وصايتها على لبنان ولا التعامل معه كإحدى المحافظات. 

يقف البلدان أمام فرصة حقيقية وجدية لتحسين وتطوير العلاقات على أسس سليمة. لكن ذلك يقتضي إلى حدّ بعيد الابتعاد كثيراً عن أي “شعبوية” في المقاربات، سواء أكان ذلك في التعاطي بملف الموقوفين والمعتقلين، أو بملف العلاقة الندية، والأهم أنه لا يمكن لسوريا أن تنظر إلى لبنان بوصفه دولة صغيرة وشوكة في خاصرة الأمة، ولا يمكن للبنان أن ينظر إلى نفسه كدولة مرعية من الغرب، ويمكنها أن تنخرط في تحالفات مناهضة لسوريا. 

البعض في لبنان ينظر إلى سوريا كخطر محدق. والبعض في سوريا ينظر إلى لبنان كخاصرة رخوة أو بيئة لديها خصومة مع أحمد الشرع وسلطته. العلاقات بين البلدين، بحاجة إلى تطوير، وهناك ملفات كثيرة عالقة تجري المساهمة لمعالجتها، لكن التعقيدات لا تزال كبيرة، أبرزها ملف الموقوفين؛ إذ إن دمشق تطالب بموقوفين، تعتبر بيروت أنهم انخرطوا بالقتال في مواجهة الجيش. في حال لم يتم معالجة هذه المعضلة، ثمة من يلوح في سوريا بأن يتم العمل على تقديم لائحة للدولة اللبنانية تطالبها بإلقاء القبض على لبنانيين تورطوا بالدم السوري وشاركوا بالقتال ضد الثورة، بالإضافة إلى المطالبة باعتقال عدد من الضباط السوريين المحسوبين على نظام بشار الأسد، وتتهمهم دمشق بأنهم يستخدمون الأراضي اللبنانية للقيام بتحركات مضادة في سوريا. هذا قد ينعكس سلباً على مسار العلاقات. فيما مواقف رئيس الجمهورية جوزاف عون حملت في طياتها بعد إيجابي لا سيما لدى حديثه عن استعداده لزيارة سوريا عندما يتم الوصول إلى اتفاق معين بين البلدين، بالإضافة إلى حديثه عن السعي لترسيم الحدود وترك مزارع شبعا للنهاية، ما يعني تسهيلاً لانطلاق مسار الترسيم، وعدم استخدام مزارع شبعا كورقة لعرقلته. 

في المقابل، فإن دمشق قابلت لبنان أيضاً بخطوات إيجابية، أولها ما يتصل بالرسائل الإيجابية التي تم توجيهها سياسياً لكل اللبنانيين، وأن ليس لديها أي نية للتدخل في لبنان ولا التعاطي مع طرف على حساب الآخر، أما عملانياً فإن دمشق لم تطالب لبنان بتسليم أي شخص تعتبره مطلوباً بالنسبة إليها، وعندما كان هناك مشكلة على بعض النقاط في تلال حلوة في البقاع، انسحب الجيش السوري منها لصالح الجيش اللبناني. إلا أن الأساس يبقى في كيفية المراكمة على هذه الإيجابيات بدلاً من اعادة الدخول في صراع يؤثر على الكيانين. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى